الشعب الفلسطيني ومعه القضية الفلسطينية في مآزق عظيمة وورطات عميقة متنوعة، وتبدو الأبواب أمامه مغلقة، ولا مفر أمامه إلا التفكير بطرق وأساليب ووسائل فتحها. لا أعلم بماذا تفكر السلطة ومنظمة التحرير اللتان كانتا ومازالتا سببا رئيسيا وأساسيا في هذا الحصاد الرديء الذي يجنيه شعب فلسطين. فهاتان مؤسستان مغلقتان ولا تفتحان نوافذ إلا لمن يصفق لهما. إنهما تحتكران المال والسلطان والقرار، وتضربان الشعب الفلسطيني بعرض الحائط.
خارطة للتحرك
فإذا كانت هناك نية لبداية جديدة مختلفة عن سنوات أوسلو وتبعاته، فإنني أطرح الخارطة التالية عل وعسى أن يكون فيها ما يساهم في إخراج الشعب الفلسطيني مما هو فيه من مآزق وأزمات:
أولا: يجب مصارحة الشعب الفلسطيني حول مختلف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية والأخلاقية القائمة بكل دقة وأمانة. ومن المفروض أن يشارك في هذه المصارحة مختلف أطياف الشعب الفلسطيني. يجب أن يعرف الشعب الفلسطيني على أي أرض يقف هو الآن، وفيما إذا كانت هذه الأرض صلبة أو رخوة آيلة للانهيار. هذا أمر يتطلب شجاعة وجرأة وأمانة. وهو أمر ضروري من أجل أن يكون الشعب على بينة من أمره، ولكي يهيء نفسه لما هو مطلوب من الجميع من أجل لم شملنا وحشد طاقاتنا لبناء أوضاع فلسطينية مختلفة عما ساد على مدى سبعة وعشرين عاما. وعي الشعب بأوضاعه ركن أساسي في الاجتماع على مائدة العمل الجماعي، ووقوفه بدقة على ما هو فيه يساهم في بناء النظرة المستقبلية والإخلاص في العمل نحو تجسيدها. يجب عدم ترك الشعب الفلسطيني في عمى وجهل بما يدور حوله وفيه، ويجب ألا تبقى النقاشات في أروقة الفصائل فقط.
ثانيا: جنبا إلى جنب توعية الناس بالأزمات والمآزق، يجب العمل على استقطاب ثقتهم لكي يتحقق تعاونهم وتجاوبهم مع السياسات المتنوعة التي سيتم تبنيها من أجل الخروج بما هو فيه. ولكي تتبلور هذه الثقة، لا بد من اتخاذ الخطوات التالية:
يجب محاربة الفساد بسرعة وبقوة وتقديم الفاسدين للمحاكمات وتحصيل ما تمتعوا به على حساب الشعب الفلسطيني. ومطلوب أيضا الإعلان عن أسمائهم ليكون في ذلك رادع لغيرهم. المفروض التحقيق في الفساد المالي والإداري، والطلب من الشعب تقديم ما يعرفون عن الفساد والفاسدين لمكاتب خاصة تتم إقامتها في القرى والمدن والمخيمات، والعمل الفوري على التحقيق بها واتخاذ الإجراءات القاسية بحق من يثبت فساده. يجب أن يطمئن الناس إلى جدية الطرح، والتخلص من الميوعة والاستهتار بمقدراتهم وتضحياتهم.
يجب تقليص الإنفاق الحكومي وسحب الامتيازات التي توفرها السلطة لمسؤولين بمن فيهم رئيس السلطة، وفتح ملفات الوزارات ورئاسة السلطة والمؤسسات العامة الأخرى أمام التحقيق والتدقيق لمحاسبة المقصرين في أدائهم العام، والمستغلين لمناصبهم وسلطانهم. وهذا يجب أن يترافق مع فتح ملفات المؤسسات شبه العامة مثل شركات الاتصال، ووكلاء الوقود والتبغ، الخ.
التحقيق بممارسات الأجهزة الأمنية ومحاسبة من اعتقلوا فلسطينيين لأسباب غير جنائية، ومن عذبوهم ولاحقوهم بخاصة من النواحي المالية والسياسية. ومحاسبة المسؤولين عن التنسيق الأمني مع الاحتلال والإيقاع بفلسطينيين..
بناء الثقة الوطنية
بعد فترة من الإجراءات المشددة نحو بناء الثقة بين المسؤول والمواطن، يصبح بالإمكان تبني الخطوات التالية:
يجب تبني سياسة الاعتماد على الذات لتطوير اقتصاد ولو بدائي يعفينا جميعا من سياسة اليد السفلى. من المفروض العودة إلى الأرض وتطوير القطاع الزراعي وتشجيع استهلاك البضاعة المحلية على حساب البضائع الصهيونية والأجنبية. لن نتمكن من تحقيق استقلال اقتصادي تام، لكننا نكون في وضع سياسي وأمني أفضل كلما ارتفع منسوب اعتمادنا على أنفسنا.
من المفروض التركيز على بناء ثقافة وطنية عميقة وملتزمة من خلال وسائل الإعلام ورياض الأطفال والمدارس والجامعات. يجب ضخ الوعي باستمرار حول دور كل فرد في عملية البناء، ويجب تطوير برامج تربوية وطنية حقيقة حتى لو كان في ذلك ملاحقة صهيونية وأوروبية وأمريكية. نحن خلاصنا في تحرير وطننا وليس بناء إقطاعية وفق المعايير الغربية والصهيونية. يجب تطوير التعليم ليكون فلسطينيا، ونحن على استعداد لنسخ المقررات الدراسية كما كان يفعل أهل أوروبا.
يجب تطوير منظومة قيمية أخلاقية وطنية وعامة. منظومتنا القيمية منهارة، وتكثر عندنا عمليات النصب والاحتيال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم. وهذه منظومة يجب أن يقوم على تطويرها خبراء ومختصون في مختلف المجالات العلمية الطبيعية منها والاجتماعية.
التخلص من التعصب التنظيمي وشن حرب بدون هوادة على المتعصبين تنظيميا لأنهم دائما يمزقون النسيج الاجتماعي ويفرقون الجمع.
التركيز على إعادة بناء المجتمع الفلسطيني والإنسان الفلسطيني وفق المنظومة القيمية الأخلاقية المطروحة.
لا بد من إنشاء لجان في كل قرية ومدينة ومخيم من أجل تنظيم الحياة العامة للناس. انهيار السلطة سيؤدي إلى فوضى إدارية، ولهذا يجب إقامة البدائل التي يمكن أن تسهل على الناس معاملاتهم.
وعلى ذات النمط، يجب وضع خطط وبرامج تعليمية يمكن أن تتغلب على إغلاق الجامعات والمدارس.
لا مفر أمامنا إلا تطوير وسائل توليد الكهرباء ووسائل تخزين المياه لمواجهة مختلف الظروف الصعبة التي يفرضها الاحتلال.
من الناحية الاقتصادية
السؤال الأول الذي يتم طرحه: من أين الأموال إذا سرنا في طريق لا يعجب الدول المانحة؟ إذا كنا سنبقى معتمدين على الدول المانحة في لقمة الخبز، فبالتأكيد نحن لا نبحث عن دولة حقيقية أو حل مشرّف للقضية الفلسطينية. من الممكن تخطي عقبة الأموال إذا اتبعنا الخطوات التالية:
أولا: لا مفر من تطوير عقلية الاعتماد على الذات، وترجمة ذلك سلوكيا.
ثانيا: الطلب من الاقتصاديين الفلسطينيين التفكير في بناء اقتصاد فلسطيني ما أمكن بطريقة تتناسب مع تطلعاتنا نحو التحرير، وتتناسب مع المعطيات القائمة وفق منهج تطويري وتكوري.
ثالثا: التخلي عن الكثير من البضائع الصهيونية، والتوقف عن استيراد بضائع يمكن إنتاجها محليا وذلك لتأكيد فكرة الاعتماد على الذات ولتوفير فرص عمل حقيقية للناس.
رابعا: الطلب من الدول العربية التي تعطي أموالها للدول المانحة تحويلها إلى فلسطين مباشرة.
خامسا: من المهم أن نعود إلى أساليب إدخال الأموال القديمة، وليس عبر مؤسسات مالية تخضع بطريقة أو بأخرى للرقابة الإسرائيلية.
سادسا: يجب التركيز على الزراعة.
سابعا: لا مفر أمامنا إلا أن نقبل بمستوى استهلاكي أقل من المستوى القائم حاليا.
ثامنا: التركيز على التحول الثقافي وبطريقة تتناسب مع متطلبات التحرير.
تاسعا: ولكي نخفض النفقات الحكومية، المفروض حرمان الذين تثبت إدانتهم بالفساد من الوظائف العامة، ولا تقاعد لهم. وهذا ينطبق على الذين اعتدوا على أفراد من الشعب الفلسطيني، واستعملوا أسلحتهم في أمور غير الدفاع عن الشعب الفلسطيني. وهو ينطبق أيضا على الذين مارسوا التنسيق الأمني وقاموا باعتقال فلسطينيين على أسس وطنية وعلى الذين أمروهم بذلك. من مارس الخيانة مرة يعود لممارستها ثنية.
تفاصيل هذه البنود متوفرة، لكن المهم أن تكون هناك نية للتغيير.
من الناحيتين السياسية والأمنية:
يجب التعامل مع القضية الفلسطينية ككل متكامل، ويجب ألا نقبل تجزئتها إلأى مستوطنات ومصادرة أراضي وقدس وحدود، الخ. لقد ضعفت مكانة القضية كثيرا مع تمزيقها إلى أجزاء.
التمسك بالثابتين الأساسيين وهما حق العودة، وحق تقرير المصير، وإدارة الظهر لمسألة حل الدولتين. مشكلتنا بالأساس هي وجود ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يريدون العودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم. فكرة الدولة مشمولة في حق تقرير المصير. ونحن لا نريد دولة وفق المعايير الأمريكية والصهيونية.
إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس غير المحاصصة. المحاصصة بين الفصائل خطيرة ومدمرة وتحرم جزءا واسعا من الشعب الفلسطيني المشاركة. ومنظمة التحرير تحت الاحتلال لا يمكن أن تكون منظمة تحرير، وإنما منظمة تسليم. ولهذا لا بد من إيجاد مقر لها خارج الأرض المحتلة، أو في غزة. من الناحية الأمنية، الأفضل أن تكون خارج البلاد.
منظمة التحرير تمسك بعد إعادة بنائها بمختلف الملفات الفلسطينية.
المنظمة تقيم غرفة عمليات مقاومة مشتركة يكون مقرها في عاصمة حريصة على القضية الفلسطينية بقدر الإمكان ومؤيدة للمقاومة. الخيار بين دمشق وطهران، والأفضل طهران من الناحية الأمنية، ومن الممكن نقلها إلى بغداد عندما تستقر الأوضاع العراقية.
تحرص المنظمة على تعزيز غرفة العمليات المشتركة في غزة، وتقديم كل أنواع الدعم للمقاومين في قطاع غزة بهدف وصولهم إلى مرحلة القدرة على الردع والهجوم.
تعمل كل الفصائل والمنظمة على تنظيف أنفسنا أمنيا. نحن مخترقون من الناحية الأمنية ويجب حرمان العدو من سيل المعلومات التي يحصل عليها.
أسوأ ما يمكن أن نصنعه:
أسوأ ما يمكن أن نختاره هو الاستمرار بالمفاوضات مع الصهاينة والاعتماد على ما يسمى بالمجتمع الدولي لإقامة دولة فلسطينية. يكفينا تجارب فاشلة على مدى سبعة وعشرين عاما.
هذه خارطة لا يمكن تطبيقها بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى وقت وجهد. سيعاني الشعب الفلسطيني أثناء الخروج من أوسلو وتطوير وضع جديد، لكن المعاناة دائما تواكب الذين يقعون تحت الاحتلال ولا يتمكنون من هزيمته. ولهذا يجب تطوير ثقافة الصبر والتحمل حتى تنفرج الأمور بسواعدنا. وإلى من يرى في الخطة طولا لا يتحمله الشعب أقول: أن تطول الطريق، وأن تتصاعد المعاناة أهون علينا من ضياع الوطن.