يقول أنس بن مالك: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، أضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ وَمَا نَفَضْنَا عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الأَيْدِي حَتَّى أنْكَرْنَا قُلُوبَنَا.
لقد أظلمت المدينة، وأصاب الحزن والهم والكمد كل شيء فيها، لموت الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، ولانقطاع خبر السماء عن الأرض.
كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا حدث عن موت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس! ثم يبكى حتى يبلّ دمعه الحصى، فقيل له: يابن عباس، ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه.
إن المصيبة بموت النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة؛ فقد انقطع الوحي، وماتت النبوَّة.
فإذا أتتك مصيبة تشجى بها ** فاذكر مصـابك بالنبي محمـد
قال أبو ذؤيب الهذلي: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه؟! فقالوا: قبض رسول الله عليه وسلم.
“كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بقلوب المؤمنين، لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه وصاح كما يصيح الصبي فنزل إليه فاعتنقه فجعل يهدي كما يهدي الصبي الذي يسكن عند بكائه فقال: ” لو لم أعتنقه لحن إلي يوم القيامة”
كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه…
ما أمر عيش من فارق الأحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب”.
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ* أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا* عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا.
يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كان بعضهم يوسوس، فكنت ممن حزن عليه، فبينما أنا جالس في أطم من آطام المدينة إذ مر بي عمر فسلم علي، فلم أشعر به لما بي من الحزن.
ذلك أن رسول الله لما توفي طاشت العقول فمن الصحابة من خَبِل، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى وكان عمر رضي الله عنه ممن خَبِل، وكان عثمان رضي الله عنه ممن أخرس فكان لا يستطيع أن يتكلم، وكان عليّ رضي الله عنه ممّن أقعد فلم يستطع أن يتحرك، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمدا، وحق له فالمصاب جلل .
المصيبة أذهبت عقول الأشداء من الرجال، وأذهلت ألباب الحكماء منهم، حتى قال عمر: “إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات.: لكن ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات”.
وإذا كان عمر كذلك، فكيف بغيره من الصحابة؟
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: لما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت المدينة، حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها “.
ولسائل هنا أن يقول: وما ذا حدث لأبي بكر الأسيف الرقيق، أشد الخلق حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
أبو بكر الصديق كان بالعوالي من المدينة ولما بلغه النبأ أقبل على فرسه فنزل عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكلم الناس، حتى دخل إلى بيت عائشة حيث مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجده مغطى بثوب، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى، ثم قال: “بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك، فقد متها”. ثم خرج إلى الناس ، فوجد عمر في ثورته يتكلم مع الناس، والناس يلتفون حوله يتمنون أن لو كان كلامه حقًّا، وبيده السيف يتهدد من يقول إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد مات ويحلف فقال له أبوبكر: أيها الحالف على رسلك، ثم قال: أما بعد، فمن كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). ثم تلى قول الحق سبحانه : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
فلما سمع عمر الآية ذهب عنه ما كان فيه وما كان يجد، وكان وقافا عند كتاب الله ، وقد قال رضي الله عنه : “والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فَعَقِرْت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض، حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.
قال القرطبي: وهذا أول دليل على كمال شجاعة الصديق رضي الله عنه لأن الشجاعة هي ثبات القلوب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت رسول الله فظهرت عنده شجاعة الصدّيق وعلمه رضي الله عنه.
ودخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على أم أيمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يتفقدانها، فوجداها تبكي، فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أنّ الوحي انقطع من السماء، فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان.
وكان بلال رضي الله عنه يؤذن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه فإذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب.
ولما دفن قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟!.
أفاطم إن جزعت فذاك عذر ** وإن لم تجزعي ذاك السبيل
لقد عظمت مصيبتنا وجلت **عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها** تكاد بنا جوانبـــــــها تميل
فقدنا الوحي والتنزيل فينا ** يروح به ويغدو جبــــــرئيل
وذاك أحق ماسالت عليه **نفوس الناس أو كادت تســـــيل