الحمدلله، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من ورطات الأمور التي مالت بكثير من الشباب إلى فكر الغلو هو الحماسة غير المنضبطة، وتغليبها على نداء الشرع والعقل.
والحماسة إن لم تحكم بسياج الشرع، وتزمَّ بزمام التقوى، وتضبطْ برأي العلماء، فإنها تنقلب إلى ريح قاصف، وزلزال مدمر.
ومما يحضر في هذا الشأن حادثة وقعت زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأججت فيها العواطف، واغتاظت منها الصدور، وبلغ الحنَق والغم في نفوس الصحابة مبلغاً عظيماً، فما هذه الحادثة، وكيف تعامل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معها؟
في العام السادس من الهجرة رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، فأخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بذلك، ففرحوا فرحاً شديداً؛ إذ رؤيا الأنبياء حق، وكان قد اشتد بهم الحنين إلى البيت، وهزهم الشوق إلى لقائه، وتطلعت قلوبهم لأداء النسك، فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شهر ذي القعدة من هذا العام السادس، هو وأصحابه، وعددهم ألف وأربع مئة من المهاجرين والأنصار، وكلهم شوق للطواف بالبيت الذي غابوا عنه زمناً، فلما كانوا تلقاء الحديبية في مكان يقال له: (غدير الأشطاط) إذ بنبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتيه الخبر بأن قريشاً جمعوا له جموعاً، وجمعوا له الأحابيش، وهم مقاتلوه وصادوه عن البيت ومانعوه.
فاستشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه، فقال: (أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين وإلا تركناهم محروبين؟) فأشار عليه أبو بكر فقال: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (امضوا على اسم الله).
فمضى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه أصحابه باتجاه مكة حتى نزلوا بالحديبية، فأخذت قريش ترسل الرجل تلو الرجل يفاوض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فكان آخر من أرسلت سهيل بن عمر، ففاوض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اتفاق سمِّيَ في التاريخ صلح الحديبية، يقضي بأن تكون هناك هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات، وأن يرجع المسلمون إلى المدينة هذا العام فلا يقضوا العمرة إلا العام القادم، وأن يرد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يأتي إليه من قريش مسلماً دون علم أهله، وألا ترد قريش من يأتيها مرتداً.
وبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنا لم نقض الكتاب بعد) قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبدا. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (فأجزه لي) قال: ما أنا بمجيزه لك. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بلى فافعل) قال: ما أنا بفاعل. فأعاده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمشركين، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ، وقد جئت مسلما؟! ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً؟!
فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (يا أبا جندل اصبر واحتسب؛ فإن الله عز وجل جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدا، وإنا لن نغدر بهم).
وافق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على شروط المعاهدة، التي بدا لبعض الصحابة أن فيها إجحافا وذلاً للمسلمين، ومنهم عمر ـ رضي الله عنه ـ الذي قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بلى)، قال عمر: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بلى) فيقول عمر: فَلِمَ نعط الدنية في ديننا إذاً؟ فيجيبه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: (إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري) فيقول عمر: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ فيقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟) فيقول عمر: لا. فيقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (فإنك آتيه ومطوف به)، ثم أتى عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي بكر ـ فقال له مثل ما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأجابه أبو بكر بمثل ما أجاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
إنه مشهد عصيب، وموقف رهيب، وامتحان صعب، ظاهره العذاب، ولكن باطنه الرحمة، تغيظ فيه المسلمون، وبلغ منهم الجـَهد، حتى إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرهم بالنحر والحلق حتى يتحللوا، فلم يفعلوا، فاستشار زوجه أم سلمة، فأشارت إليه أن يعمد إلى هديه فينحره، ثم يحلق، ففعل، فنحر الناس وحلقوا، فكاد بعضهم عند الحلق يقتل بعضاً من الغم والكآبة.
ولكن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهم الصفوة المؤمنة لم يجرؤ أحد منهم أن يخالف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أو يرد عليه أمره، وإنما هي رؤى خالجت صدورهم، هم فيها معذورون، حتى مراجعة عمر ـ رضي الله عنه ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ فإنه ما زاد على أن رد الأمر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسترشده ويستهديه، ثم طابت نفسه بعد ذلك ورجع.
فقد نزلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سورة الفتح مرجعه من الحديبية، فأرسل إلى عمر، فأقرأه إياها فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: ( نعم ) فطابت نفسه ورجع([1]).
وكان ما حصل في هذا الصلح درساً أفاد منه الصحابة الكرام ـ عليهم رضوان الله ـ ، فهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ يوصي الناس بعدُ فيقول: (يا أيها الناس: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ برأيي اجتهاداً، فوالله ما آلو عن الحق، وذلك يوم أبي جندل، والكتاب بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهل مكة ، فقال: اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: ترانا قد صدقناك بما تقول؟ ولكنك تكتب باسمك اللهم، فرضي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبيت، حتى قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تراني أرضى وتأبى أنت؟ قال: فرضيت) ([2]).
وكان ـ رضي الله عنه ـ يقول: (ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً) ([3]).
وهذا سهل بن حُنيف ـ رضي الله عنه ـ يقول أثناء وقعة صفين: (أيها الناس اتهموا رأيكم، والله لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرددته..)([4]).
إن في هذه الحادثة العظيمة لدرساً عظيماً للأمة بأن يقتدوا بالصحابة الكرام، فلا يحملهم الغضب للدين على الاعتداد بآرائهم، والانتصار لها، والافتيات على أهل العلم، فهذه مزلة أقدام، وطريق ألغام، وهي أحد الأسباب لركوب الشاب مسلك الغلو والتطرف، وقد جاء في وصف الخوارج حديث أنس بن مالك قال: ذكر لي أن نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن فيكم قوما يعبدون ويدأبون ـ يعني ـ يعجبون الناس، وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)([5]).
فتجد من الشباب من يتصدر للكلام في الأمور العظام كالدماء والتكفير والسياسة، وهو لا يحسن قراءة بعض سور القرآن، أو لم يستكمل قراءة كتاب واحد في العلم!
وقد حدثني أحد الفضلاء أنه قد جاءه شاب يطعن في كبار علمائنا، ويقول: هم لا يفقهون السياسة!
يقول هذا الفاضل: فقلت له: هل تتفضل بعدِّ السور التي ورد فيها استواء الله على عرشه؟
فعيي في الجواب، ولم يذكر شيئاً!
وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره 5/242: (خوض العامة في السياسة وأمور الحرب والسلم، والأمن والخوف، أمر معتاد، وهو ضار جداً إذا شغلوا به عن عملهم، ويكون ضرره أشد إذا وقفوا على أسرار ذلك وأذاعوا به، وهم لا يستطيعون كتمان ما يعلمون، ولا يعرفون كنه ضرر ما يقولون).
وإن الواجب على المسلم إذا جاءه أمرٌ من هذه الأمور أن يرجع لأهل العلم امتثالاً لقوله تعالى: [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا]
وقد فسر ابن جرير الطبري هذه الآية في جامعه 8/504 بقوله: (إن اختلفتم ـ أيها المؤمنون ـ في شيء من أمر دينكم أنتم فيما بينكم، أو أنتم وولاة أمركم، فاشتجرتم فيه، فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم فيه من كتاب الله ، فاتبعوا ما وجدتم، فإن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا فارتادوا معرفة ذلك ـ أيضا ـ من عند الرسول إن كان حياً، وإن كان ميتا فمن سنته).
ولاشك أن أبصر الناس بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم العلماء؛ لأنهم هم الذين عندهم القدرة على استقراء الأدلة، والاستنباط منها، وتنزيلها على واقع الناس، كما قال تعالى: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..].
وقد علق على هذه الآية العلامة السعدي تعليقاً جميلاً في تفسيره ص190 فقال: (في هذا دليل لقاعدة أدبية وهي: أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ).
وإن مما يحتم الرجوع إلى أهل العلم في مثل هذه الأمور هو أن الفتن إذا أقبلت لا يعرف خيرها من شرها إلا الراسخون في العلم؛ فقد أخرج ابن سعد في الطبقات 7/166عن الحسن البصري أنه قال: (إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل).
وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية حال الفتنة في إقبالها وإدبارها فقال في منهاج السنة4/409: (إنما يُعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تزَّيَّن، ويظن أن فيها خيرا، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء، صار ذلك مبينا لهم مضرتها، وواعظا لهم أن يعودوا في مثلها).
وكل هذا دليل بين على وجوب الأخذ بمشورة أهل العلم، والاستهداء بهديهم، والإفادة من رأيهم؛ فإنهم أبعد نظراً، وأوسع إدراكاً.
وقد قال أبو الطيب:
الرأي قبل شجاعة الشجعان … هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مِرةٍ … بلغتْ من العلياء كلَّ مكان
وإذا قيل: أهل العلم فالمراد بهم الراسخون فيه، ذوو البسطة فيه، الذين ذاع فضلهم وعلمهم في الأمة، وهم كثير بحمد الله.
فليعلم من يتنكب طريق أهل العلم بالتتلمذ على المجاهيل بأن الذمة لا تبرأ باستقاء العلم من معرِّفات مجهولة، أو أسماء وكنى ليست في العلم في دبير ولا قبيل، ولا لها فيه ناقة ولا فصيل.
وأذكر هنا حادثتين وقعتا أثناء فتنتين عظيمتين، لأناس حادوا عن رأي أهل العلم فوقع لهم ما يكرهون:
الحادثة الأولى: وقد وقعت أثناء فتنة ابن الأشعث، فقد أخرج ابن سعد في الطبقات7/164، والدولابي في الكنى (1350) عن سليمان بن علي الربعي قال: (لما كانت الفتنة فتنة ابن الأشعث ـ إذ قاتل الحجاج بن يوسف ـ انطلق عقبة بن عبد الغافر، وأبو الجوزاء، وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن البصري، فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟ قال: وذكروا من فعل الحجاج، قال: فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه؛ فإنها إن تكن عقوبة من الله، فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، قال: فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج! قال: وهم قوم عرب، قال: وخرجوا مع ابن الأشعث، قال: فقتلوا جميعا).
قال سليمان: (فأخبرني مرة بن ذباب أبو المعذل قال: أتيت على عقبة بن عبد الغافر وهو صريع في الخندق فقال: يا أبا المعذل لا دنيا ولا آخرة).
فتأمل كيف أنهم قصدوا سؤال الحسن، وهم يعرفون مكانته، ولو لم يعرفوها لم يقصدوه، فلما لم يجبهم إلى سؤلهم، ويوافقْهم في هواهم سلخوا منه كل فضيلة، ووصفوه بالعلج!
وما أشبه الليلة بالبارحة فتجد في زماننا أن من وافق الغلاة في فكرهم فهو عندهم العلَّامة، ومن خالفهم فهو المداهن العميل.
الحادثة الثانية: وقد وقعت أثناء فتنة القول بخلق القرآن، قال حنبل بن إسحاق؛ ابن عم الإمام أحمد في كتابه: ذكر محنة الإمام أحمد ص72: ( لما أظهر الواثق هذه المقالة، وضرب عليها وحبس، جاء نفر إلى أبي عبدالله، من فقهاء أهل بغداد، فقالوا له : يا أبا عبدالله : إن الأمر فشا وتفاقم، وهذا الرجل يفعل ويفعل، وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا له أن ابن أبي دؤاد مضى على أن يأمر بالمعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن : القرآن كذا وكذا . فقال لهم أبو عبدالله : وماذا تريدون ؟ قالوا : أتيناك نشاورك فيما نريد . قال: فما تريدون؟ قالوا: لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه. فناظرهم أبو عبدالله ساعة؛ حتى قال لهم : أرأيتم إن لم يتم لكم هذا الأمر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه، عليكم بالنُّكرة في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح برٌ، ويستراح من فاجر. فقال بعضهم : إنا نخاف على أولادنا، إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره، ويمحى الإسلام ويدرس. فقال أبوعبدالله : كلا؛ إن الله ـ عز وجل ـ ناصر دينه، وإن هذا الأمر له رب ينصره. فخرجوا من عند أبي عبدالله، ولم يجبهم إلى شيءٍ مما عزموا عليه أكثر من النهي عن ذلك، والاحتجاج عليهم بالسمع والطاعة، حتى يفرج الله عن هذه الأمة. فلم يقبلوا منه، وخرجوا من عنده، فلما خرجوا قلت : يا أبا عبدالله : وهذا عندك صواب؟ ـ أي أمر الخروج على السلطان ـ . قال : لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر، ثم قال أبوعبدالله : قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن وليت أمره فاصبر) قال حنبل : فمضى أولئك القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان ، وهربوا ، وأخذ بعضهم فحبس، ومات في الحبس).
ففي هاتين الحكايتين دلالة عظيمة على فقه هذين الإمامين؛ لأنهما يعلمان أنه يترتب على الخروج على الولاة من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم.
كما أن في هاتين الحكايتين حفظ الله وعصمته لهذين الإمامين ـ الحسن وأحمد ـ فإنهما ـ رحمهما الله ـ لم يأبها بكلام من جاءهما يريد الخروج، ويحتج بالدين، والنصرة له؛ معرضاً عن عواقب هذا الأمر؛ فإن الناس ـ غالباً ـ يتأثرون بمثل هذا الكلام، وتجيش عاطفتهم، وتطيش عقولهم، ويسارعون في الموافقة، فيفعلون شيئاً لا يحمد، وكم من مريد للخير لم يبلغه.
ونحن في هذا الزمان بحاجة إلى إشاعة مثل هذه المواقف المشرقة المبنية على الكتاب والسنة، وتثقيف الشباب بها؛ حتى يكون حماسهم مضبوطاً بحد العلم والعقل، فيسلموا بذلك من أفكار الغلو والتطرف.
وأختم مقالي بكلمة للعلامة محمد الخضر حسين، تلخص المقال، حيث يقول في رسائل الإصلاح2/28: (في الشباب شجاعة، وفي الشيوخ تجارب، فإذا صدرت شجاعة الأمة عن آراء شيوخها الحكماء، فلا جرم أن يكون لها الموقف الحميد، والأثر المجيد).
اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، وأيد بالحق إمامنا، وجنبنا مضلات الفتن، واهدنا صراطك المستقيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
(1) القصة أخرجها البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم.
(2) أخرجه الطبراني والبزار.
(3) أخرجه أحمد.
(4) أخرجه مسلم.
(5) أخرجه أحمد.