يقف الليبيون على رؤوس أصابعهم في مفترق طرق الحرب والسلام، بعد خرق مليشيات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، اتفاق وقف إطلاق النار بالتزامن مع اقتراب اختيار رئيسي المجلس الرئاسي والحكومة، اللذين سيقودان المرحلة المقبلة.
فالهجوم الذي شنته مليشيات حفتر على معسكر للجيش الليبي بمنطقة أوباري، أقصى الجنوب الغربي للبلاد، يشكل رسالة خطيرة باحتمال اندلاع الحرب مجددا.
وما يرجح هذا الاحتمال عدة أسباب، أبرزها أن مرشح حفتر لرئاسة المجلس الرئاسي عقيلة صالح، يوشك على خسارة هذا المنصب، رغم تحالفه مع رجل الغرب القوي، وزير الداخلية فتحي باشاغا، المدعوم من حزب العدالة والبناء (إسلامي).
وصالح، مهدد أيضا بفقدان منصب رئيس برلمان طبرق، بعد توحيد مجلس النواب في طرابلس وانتخاب قيادة جديدة.
ووفق هذا السيناريو، الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، فإن حفتر سيفقد حليفه السياسي، ويصبح مكشوفا ودون غطاء سياسي أمام المجتمع الدولي.
ناهيك أن أمله في تعيينه قائدا عاما للجيش سيتبخر، مع إصرار التيار المدني المتغلب داخل ملتقى الحوار، على إبعاد الحرس القديم من المشهد.
النقطة الثانية تتمثل في أن استعداداته لجولة جديدة من القتال اكتملت أو قاربت على الاكتمال، بعد الانتهاء من حفر خنادق على طول خط سرت (450 كلم شرق طرابلس) ـ الجفرة (300 كلم جنوب سرت).
وتم زرع حقول من الألغام على طول خط سرت والجفرة، لمنع الجيش الحكومي من اقتحام أكبر قاعدتين جويتين بالمنطقة الوسطى، إضافة إلى ميناء سرت.
فضلا عن ذلك، وصول أطنان من الأسلحة جوا وبرا، بعضها حديث على غرار راجمات الصواريخ الصربية “مورافا”، علاوة على قاذفات “سوخوي 24″، ومقاتلات “ميغ 29” متعددة المهام.
وفي الفترة الأخيرة، أجرت مليشيات حفتر مناورات بالذخيرة الحية، جربت فيها أسلحة جديدة، وشارك فيها الطيران، ما يعطي انطباعا بأن هناك استعدادا للقيام بمعارك أكبر وأوسع.
الأمر الآخر أن اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار، الموقع في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نص على سحب القوات من خطوط التماس، لكن في الواقع تتهم القوات الحكومية مليشيات حفتر بإرسال مزيد من الحشود والمرتزقة إلى خطوط المواجهة.
فتحركات مليشيات حفتر على الأرض تعاكس تصريحات قياداتها المعلنة، وهذا ما يرجح فرضية تحضيرها لهجوم مباغت، على غرار عدوانها على طرابلس في 4 أبريل/ نيسان 2019، عشية زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إلى ليبيا، قبيل 10 أيام من انطلاق مؤتمر أممي جامع بمدينة غدامس (جنوب غرب).
وهجوم مليشيات حفتر على معسكر للجيش الحكومي في أوباري، الأحد، يذكرنا بعمليته العسكرية التي أطلقها للسيطرة على الجنوب، بين يناير/ كانون الثاني ومارس/ آذار 2019، وبعد أقل من شهر هاجم طرابلس.
والنقطة الأخيرة، أن حفتر قد يسابق الزمن لإطلاق عملية عسكرية خاطفة وسريعة للسيطرة على طرابلس قبيل تسلّم الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، مقاليد الحكم في 20 يناير 2021.
فبايدن، لا يبدي تحمسا لدعم “الديكتاتوريات العربية” التي ساندها سلفه دونالد ترامب، وحفتر من ضمن هؤلاء الذين حظوا بنوع من الدعم أو الصمت عن انتهاكاته لحقوق الإنسان وجرائمه في حق المدنيين.
ووضع مليشيا الكانيات التابعة لحفتر، في قائمة العقوبات الأمريكية، مؤشر على أن هذه العقوبات ستطول في المرحلة المقبلة حفتر ذاته، الذي يمتلك وأبناؤه عقارات في الولايات المتحدة تفوق قيمتها 8 ملايين دولار.
** غضب الجيش الليبي
وفي رد قوي من وزير الدفاع صلاح الدين النمروش، على هجوم مليشيات حفتر على معسكر تيندي، الذي يضم مغاوير الطوارق التابعين للجيش الحكومي، هدد بالانسحاب من اتفاق وقف إطلاق النار، خصوصا في ظل صمت أممي على هذا الخرق.
فيما أعلنت مليشيات حفتر تمسكها باتفاق وقف إطلاق النار، لكنها أمرت عناصرها بأن يكونوا على درجة عالية من الحيطة والحذر.
وبررت ذلك بحشود الجيش الليبي في طرابلس ومصراتة (200 كلم شرق طرابلس) ونقلهم الجنود والأسلحة إلى غرب سرت والجفرة.
وسربت معلومات أن الاحتكاك الذي وقع في معسكر تيندي كان بسبب خلافات شخصية، دون توضيح خلفياتها.
في حين أشار وزير الدفاع الليبي أن ما فعلته مليشيات حفتر، الأحد، لم يكن الأول في أوباري، بل سبقه قبل أسبوع اقتحامها أحياء المدينة، وهدم المنازل على رؤوس ساكنيها.
بدوره، أدان المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) الهجوم على معسكر تيندي، واستغرب صمت البعثة الأممية إزاء هذا الخرق “باعتبار الحادثة عرقلة لمسار الحوار السياسي السلمي في ليبيا”.
واللافت في بيان المجلس، أنه اعتبر “هذا الخرق في حقيقته تنفيذا لأجندة خارجية، تهدف لإفشال أي مسار سلمي للخروج من الأزمة الليبية عبر الحوار”.
وجدير بالذكر أن عقيلة صالح، زار مؤخرا روسيا، فيما طار حفتر إلى مصر، والبلدان إلى جانب الإمارات، أكثر من يدعم الرجلين، اللذين خرجت نتائج ملتقى الحوار من أيديهما.
كما أن فرنسا، التي استقبلت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تسعى إلى حشد حلفائها لمحاولة حصار تركيا في شرق المتوسط، وقطع أي تعاون لها مع ليبيا.
لذلك فتحرك مليشيات حفتر في الجنوب يدخل في إطار جس نبض الأطراف المحلية والدولية إزاء أي تحرك أكبر، لمحاولة فرض الأمر الواقع أو تحسين ظروف التفاوض، للبقاء ضمن ملعب الصراع.
** حفتر لا يسيطر على أوباري بالكامل
وهذه الاحتكاكات في أوباري، كشفت حقيقة أن مليشيات حفتر لا تسيطر على أوباري بالكامل كما تزعم، بل يوجد للقوات الحكومية موطئ قدم قوي بالمنطقة.
وتكمن أهمية أوباري في أنها حاضرة قبائل الطوارق، ويوجد بها مطار مدني، وأيضا حقل الشرارة النفطي الأكبر في البلاد، إضافة إلى حقل الفيل الذي يتضمن مهبطا صغيرا للطائرات.
وسبق لمليشيات حفتر أن اتهمت الجيش الليبي بتزويد مسلحي التبو بالأسلحة عبر مطار أوباري، بعد خسارتها مدينة مرزق، القريبة من الحدود التشادية في الجنوب عام 2019.
ولولا التفوق الجوي، لعانت مليشيات حفتر، من هجمات كتائب الطوارق والتبو، التابعة للجيش الحكومي، والتي تجيد حروب الصحراء، لمعرفتها الجيدة بدروبها.
وهذا ما يفسر إخفاق مليشيات حفتر في اقتحام معسكر تيندي، لسببين على الأقل، أولهما تحصن القوات الحكومية في أعلى تلة مطلة على المعسكر.
والأمر الثاني احتشاد السكان على الطرقات المؤدية إلى المعسكر، ما كان سيؤدي إلى محاصرة مليشيات حفتر، لذلك فضلت الانسحاب وتجنب المواجهة.
لكن هذه الحادثة قد تدفع الجيش الليبي إلى دعم وحداته أكثر في الجنوب استعدادا لأي مواجهة جديدة.
حيث طالب المجلس الأعلى للدولة، الحكومة بتقديم دعم أكبر للقوات الشرعية في الجنوب للقيام بواجباتها.
ويشكل تأجيل اجتماع مجلس النواب في غدامس، الذي كان مقررا الإثنين الماضي، وتأخر إعلان رئيس المجلس الرئاسي الجديد، مؤشرا آخر على الضغوط الممارسة على النواب وأعضاء ملتقى الحوار، لإعادة صالح إلى المشهد، وإلا فقد ينسف حفتر الحوار برمته، بتحريض من دول داعمة لهما.