حسان والنقلة النوعية للشعر الإسلامي

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : عباس مناصرة

حسان بن ثابت (3) “والنقلة النوعية للشعر الإسلامي “

1- المقدمة:      
كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو العطاء الرباني والقيادة الفذة، التي أخرجت مواهب العرب المدفونة في الجزيرة العربية وفجرتها بعد أن وظفتها في بناء حضارة هذا الدين العظيم، حيث استطاع النبي أن يسلط نور الإسلام على معادن الرجال فيكشف الطاقات المخبوءة للعبقرية العربية، ويوظف هذه المواهب والخبرات في خدمة دين الله، ومن المؤكد أن هذه الطاقات كانت ستدفن وتموت. لولا هذا الدين، وكان من بين هذه المواهب المتعددة ذات الخبرة العريقة التي صقلها الإسلام واخذ بيدها، أمير شعراء الدعوة، حسان بن ثابت رضي الله عنه، الذي عرف له الرسول – عليه السلام – عظم موهبته فوضعها في الموضع المناسب، وقد كان حسان في الجاهلية يعيش تحت سيطرة الأهواء واللذات ويندفع مع رغباته في كل واد، حتى إذا جاء الإسلام الذي طهر النفوس من إملاق العقائد الجاهلية، رأينا حسان يستجيب لأمر الله بسرعة مذهلة، أخضع فيها فكره وقلبه لمضامين الإسلام وطوع الفن الشعري لفهم الإسلام، وظهرت آثاره العميقة على موازينه الفكرية والفنية والأسلوبية وبصورة هي اقرب إلى الانقلاب منها إلى التدرج. 

فقد نقل أغراض الشعر من الفخر بالذات والقبيلة إلى الاعتزاز العقيدي السياسي، ومن الغضب والهجاء المرتبط بمصالح الذات، إلى الغضب لله ولرسوله، ومن أدب التكسب إلى أدب الانتماء العقيدي، ومن المدح بدافع الطمع إلى مدح الهدى مقابل الثواب من الله سبحانه وتعالى. 

كما استطاع بغزارة إنتاجه تغطية حاجات الدعوة، والاستجابة للتحديات التي تواجهها والرد على أكاذيب الكفار وجلاء حقائق الإسلام.

وهكذا استطاع حسان – رضي الله عنه – أن ينجح في توظيف موهبته، وتصحيح موازينها الفنية والأسلوبية، بما يتناسب مع تحديات الواقع ووظيفة الشعر كما أرادها الإسلام، بعد أن تغلغلت العقيدة في كيانه وتأدب بأدبها وعايش حياة الدعوة وجهادها بصحبة النبي عليه السلام وتحت إشرافه وتوجيهه، حتى بلغ المستوى الذي يقدر فيه على القيام بالمهمة ويُؤْمَن عليه من الإسراف في الخيال، عندها قام بالدور خير قيام، وقد شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، حين قال: (أمرت عبد الله بن رواحة بهجاء قريش فقال وأحسن، وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن، وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى).

وكان له فهم خاص وإدراك عميق في استعمال مادة الهجاء، حيث كان يهجوهم بالأيام التي هزموا فيها ويعيرهم بالمثالب، والمعايب والأنساب، لأنه كان يرى أن ذلك اشد عليهم من تعييرهم بالكفر، وهم لا يدركون قباحته، وان كان لا يهمل ذلك الكفر في الهجاء، وكان أيضاً يسفه عقولهم وأحلامهم ويسخر من ضلالهم، ولهذا كان القلب النابض بمعاناة الدعوة والأحداث التي تحيط بها، وهذه الفقرة هدفها الاستعراض السريع لشعر حسان والتعريف بقدرته وطول باعه في الشعر الإسلامي والأغراض التي ساهم فيها؛ سدا لحاجة الدعوة، في مواجهة شعراء المشركين. 

2- الاستعراض العام 
وعند استعراض شعره نجد أن حسان يسخر من ضلال عقول قريش حين بعث الله لها نبي الهدى فلم تؤمن به ولهذا يقول بعد أن استقبل الرسول عليه السلام في الهجرة إلى المدينة:
1- لقد خاب قومٌ غاب عنهم نبيهم=وقدـس من يسري إليهم ويفتدي 
2- ترحل من قوم فضلت عقولهم=وحل على قوم بنور مجدد 
3- نبي يرى ما لا يرى الناس حوله=ويتلو كتاب الله في كل مسجد 
4- وإن قال في يوم مقاله غائب=فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد 
وقصته مع الحارث بن عوف المري حين قتل في جواره داع من دعاة الرسول مشهورة فقال فيه وفي عشيرته: 
1- إن تغدروا فالغدر منكم شيمة=والغدر ينبت في أصول السخبر 
وأمانة المري حيث لقيته=مثل الزجاجة صدعها لم يجبر 
وعندها بكى الحارث من هجائه له بدموع غزار، واستجار بالرسول عليه السلام متوسلاً أن يكفه عنه حين قال يا رسول الله كف عني حسان، فوالله لو مزج كلامه بالبحر لمزجه، وانظر إليه وهو يسخر من أبي جهل ويحقر مقامه بين العرب في قوله: 
1- سماه معشره أبا حكم=والله سماه أبا جهل 
2- أبقت رياسته لمعشره=غضب الإله وذلة الأصل 
وقد استطاع حسان أن يخلص الشعر من تهويم الخيال، الذي يصل إلى حد الادعاء والكذب، وأن يركز فيه على الصدق ووصف الحقائق دون تضخيم أو مبالغة مع سهولة الخطاب ووضوحه : 
1- ولقد نلتم ونلنا منكم=وكذلك الدهر أحياناً دُول 
2- إذ شددنا شدة صادقة=فأجأناكم إلى سفح الجبل 
3- وعلونا يوم بدر بالتقى=طاعة الله وتصديق الرسل 
4- وتركنا في قريش عورة=يوم بدر وأحاديث مثل 

وقد يُشيع بعضهم أن حسان كان جباناً، وفي ظني أنه يخطئ من وقع في ذلك، حيث كان حسان يرافق المسلمين في المعارك ويتغبر بغبارها، ولكنه لا يستطيع القتال لأنه من أصحاب الأعذار فهو صاحب عرج ويده لا تقوى على القتال، ولكنه فعل بالمشركين ما لم يستطع فعله أهل القتال، أَلم يقل له النبي عليه السلام قاصداً بذلك لسانه (لهذا أشد عليهم من وقع النبل)  بل وكان يدعو له أن يؤيده الله بروح القدس، وكان أيضاً يقسم له في الغنائم كنصيب المقاتلين لأهمية ما يقوم به. 

وفي أكثر الغزوات كان حسان يعايش الجهاد بنفسه ويشارك فيه بجهده وشعره، ويكفيه سبقاً انه نقل الشعر من التكسب والرغاء والمصالح، إلى مرحلة ربطه بالعقيدة وبالالتزام وبصدق القلب، وهو الذي عاش أكثر من ستين عاماً من عمره في الجاهلية، ولكنه جاهد نفسه فنجح في استيعاب الدين الجديد والإيمان به، والتهيؤ للتعبير عن معاناة أَهله، واجه قريشاً وفضح مثالبها وعيرها بالهزائم، ونقل سمعة المسلمين وانتصاراتهم إلى القبائل العربية بأشعاره السائرة بينهم، فكانت أَشعارْهم حرباً نفسيةً على المشركين، ودعاية ناجحة للإسلام والمسلمين وسط القبائل العربية المتناثرة، يوم أَن كان العرب يعتبرون الشاعر الوسيلة الوحيدة للتعبير عن المواقف والمشاعر والأفكار، انظر إليه وهو يكشف ضعف قريش ويفضح هزائمهم ويعممها بشعره بين قبائل العرب فيزري من مكانتها بينهم: 
1- وخبر بالذي لا عيب فيه=بصدق غير إخبار الكذوب 
2- بما صنع المليك غداة بدر=لنا في المشركين من النصيب 
3- فوافيناهم منا بجمع=كأُسد الغاب مردان وشيب 
4- فغادرنا أبا جهل صريعاً=وعتبة قد تركنا في الجبوب 
5- يناديهم رسول الله لما=قذفناهم كباكب في القليب 
6- فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا=صدقت وكنت ذا رأي مصيب 
وفي غزوة أُحد  يرسم لنا صورة الصراع العقائدي بأسلوب سهل بين:
1- طاوعوا الشيطان إذْ أخرجهم=فاستبان الخزي منهم والفشل 
2- حين صاحوا صيحة واحدة=مع أبي سفيان قالوا أُعل هبل 
3- فأَجبناهم جميعاً كلنا=ربنا الرحمن أعلى وأجل 

ويوم أحاط المشركون بالمدينة في غزوة الخندق ومعهم اليهود، لم ينسَ أن يكشف الموقف ويتفاعل معه بأسلوب يكشف عناية الله بهذه الدعوة ويجمع بين البساطة والصدق وسهولة الأداء دون ابتذال وهبوط: 
1- واشك الهموم إلى الإله وما ترى=من معشر متألبين غضاب 
2- حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا=قتل النبي ومغنم الاسلاب 
3- وغدوا علينا قادرين بأيدهم=ردوا بغيهم على الأعقاب 
4- بهبوب معصفة تفرق جمعهم=وجنود ربك سيد الأرباب 
5- واقر عـين محمد وصحابه=واذل كل مكذب مرتاب 

أَما اليهود فيفضح ضلالهم عن التوراة وخيانتهم للرسول وتعاونهم مع قريش بقوله: 
1 – تفاقد معشر نصروا قريشاً =وليس لهـم ببلدتهم نصير
2- هم أُتوا الكتاب فضيـعوه =فهم عمى عن التوراة بور 

ولم تكن حرب السيف هي الوحيدة التي كانت تعمل ضد الصف المؤمن، بل كانت حرب أخرى يقوم بها طابور من المنافقين، وفي حديث الإفك، يُتهم حسان بالخوض في ذلك فيسارع للتبرؤ من هذه التهمة، ويذب عن عرض أُم المؤمنين عائشة قائلاً: 
1 – حصان رزان ما تزن بريبة=وتصبح غرتى من لحوم الغوافل
2 – حليلة خير الناس ديناً ومنصباً=نبي الهدى والمكرمات الفواضل 
3 – فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم=فلا رفـعت سوطي إلى أناملي 
4-وأن الذي قد قيل ليس بلائط=بها الدهر بل قول امرئ متماحل 

هذا هو حسان رأس المخضرمين الذين تحملوا مسؤولية الإيمان والتعبير عن همومه(23). 

* عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

اكتب تعليقك على المقال :

أحدث الأخبار