أصبح الحق في تقرير المصير لغة دبلوماسية مشتركة في القرن العشرين، مع تقديم الرئيس الأمريكي الراحل وودرو ويلسون ما يسمى بالمبادئ الـ14، الذي اعتمدته “عصبة الأمم” لإحلال السلام.
ورغم أن “دعم الأمم المتحدة للحق في تقرير المصير أصبح أبطأ مما كان عليه في ذروته التاريخية في القرن العشرين”، إلا أنه لا يزال “ركيزة أساسية لعملها”، وفقا لما قاله أمينها العام أنطونيو جوتيريش، في فبرايرالماضي.
كما أكد رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، السفير فولكان بوزكير على تشجيعه “للجنة الخاصة بإنهاء الاستعمار” لضمان تطبيق حق تقرير المصير لجميع البلدان والشعوب المستعمرة تبعا لميثاق المنظمة، في أكتوبرالماضي.
وتضمنت مبادئ ويلسون حق تقرير المصير لجميع الشعوب، ولكنه لم يحدد تعريفا للشعوب التي تتمتع بهذا الحق، هل تجمعها لغة مشتركة أم ثقافة أم فن أم تاريخ أم عرق أم دين أم فولكلور أم تعليم؟.
ففي مؤتمر باريس للسلام عام 1919، ناشد الأيرلنديون، الذين لديهم لغة وتراث وعرق وتاريخ مشترك، ويلسون للإصرار على اعتراف البريطانيين بحقهم في تقرير المصير.
لكن ويلسون رفض ذلك، إذ كان مهتما بتأسيس عصبة الأمم ومحكمة العدل الدولية التي تطلبت دعم بريطانيا، ليحصلوا فيما بعد على حق تقرير المصير عام 1921.
كما أن المؤتمر أسفر عن ولادة دولة “يوغوسلافيا”، المكونة من الصرب والكروات والسلوفينيين والبوسنيين وسكان الجبل الأسود والمقدونيين والألبان، دون سبب واضح لجمعهم في دولة واحدة، لتنقسم فيما بعد إلى سبع دول.
وهو ما حدث أيضا مع “تشيكوسلوفاكيا”، التي تأسست بناء على المؤتمر، لكن التشيك والسلوفاك انقسما إلى دولتين منفصلتين عام 1992.
مبدأ تقرير المصير
إن تقرير المصير هو مبدأ تم تطويره على مدى مئات السنين، وأسفر عن نهوض الشعوب في جميع أنحاء العالم، ليصبح عنصرًا محوريًا في العلاقات الدولية في الآونة الأخيرة، على الرغم من غموضه.
لقد أثبت الحق في تقرير المصير أنه مفتاح حل النزاعات المزمنة والصراعات التي لا ترحم، في ناميبيا وتيمور الشرقية والبوسنة وإريتريا وكوسوفو والجبل الأسود وجنوب السودان، على سبيل المثال.
وفي كل حالة، كان تقرير المصير مدفوعًا بحكم قمعي، سواء كان أجنبيًا أو غير ذلك، كما استمد قوته من القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وتركز المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة على “مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب”.
كما يشير قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514، الذي تم تبنيه عام 1960، إلى حق تقرير المصير من الحكم الاستعماري أو السيطرة الأجنبية.
وفي القانون الدولي الحديث، يعتبر تقرير المصير “حقًا جماعيًا للشعوب”، ويعرٌف على أنه حق الأشخاص ليس فقط في الحفاظ على اللغة والتراث الثقافي والتقاليد الاجتماعية، ولكن أيضًا في التصرف بطريقة مستقلة سياسياً.
ويمكن القول إن المعايير التالية مقاييس جيدة لقوة الشعور العام لدى القوميات، التي تطالب بحق تقرير المصير، رغم كونها غير قاطعة.
وتشمل المعايير اللغة والتاريخ والعرق أو الإثنية والثقافة والدين والمعاناة أو الاضطهاد والاستعداد لتحمل المصاعب والنضال من أجل تقرير المصير.
حق تقرير مصير كشمير
مع وضع المعايير السابقة في الاعتبار، ننتقل إلى “جامو وكشمير”، الجزء الخاضع لسيطرة الهند من إقليم “كشمير” المتنازع عليه مع باكستان، والتي كانت خاضعة لسيطرة بريطانيا.
وداخل حدود كشمير كان يعيش المسلمون والهندوس والسيخ والبوذيون، لكن 80٪ من سكانها كانوا مسلمين، وعاشت الجماعات الدينية الأربع في كشمير في أحياء مشتركة وأقامت صداقات.
وتجنبت الجماعات عمومًا الدين كنقطة خلاف، على عكس العديد من الأماكن الأخرى في العالم، مثل أيرلندا الشمالية.
ومع انتهاء الهيمنة البريطانية على كشمير 15 أغسطس 1947، امتنعت ولايات جامو وكشمير وحيدر أباد وجوناجاد عن اختيار الانضمام إلى الهند أو باكستان.
وبموجب القانون الدولي، أصبح الجميع مستقلين آنذاك، ولكن لمن السيادة إذن؟ لشعوب الولايات الجديدة أم حكامها غير المختارين ديمقراطياً؟.
وبعدها أعلن رئيس الوزراء الهندي آنذاك، جواهر لال نهرو أنه في الحالات التي يكون فيها دين الحاكم الأميري مخالفًا للعقيدة الدينية للأغلبية، يجب أن تسود آراء الأخير في جميع مسائل السيادة.
وحينما اختار الحاكم المسلم لحيدر آباد، ذات الأغلبية الهندوسية، الاستقلال، أرسل نهرو الجيش للتأكد من تنفيذ إرادة الهندوس بالانضمام إلى الهند، وهو ما تم أيضا في جوناجاد.
وكانت كشمير نتيجة طبيعية لحيدر أباد وجوناجاد، إذ تعرض غالبية السكان المسلمين للاضطهاد لعقود قبل 1947.
وتضمنت أشكال الاضطهاد فرض قوانين تمييزية وسيطرة الدولة على المساجد وفرض ضرائب قاسية وقصور المرافق التعليمية وحظر استخدام أسلحة الدفاع عن النفس وعقوبة الإعدام لذبح الأبقار والقمع الوحشي للمعارضة السياسية السلمية.
نظرية رئيس الوزراء الهندي
كانت ثورة السكان الأصليين في كشمير على وشك الإطاحة بالمهراجا (حاكمها) آنذاك، وبناء على مبادئ نهرو انتقلت السيادة على الفور للشعب.
لكن نهرو خالف مبادئه وخطط لتزوير وثيقة لانضمام كشمير إلى الهند وقعها المهراجا، ثم أرسل قوات إلى كشمير لدعم نظامه المنهار.
وتم ذلك رغم أن المهراجا لم يكن لديه سلطة للتوقيع على وثيقة الانضمام أو طلب التدخل العسكري الهندي في كشمير، بحسب نظرية نهرو للسيادة.
ثم شعر نهرو بالذنب في البداية وطالب الأمم المتحدة بأن تجري استفتاء لتقرير المصير في كشمير في جو انتخابي حر.
واعتمد مجلس الأمن، بموافقة صريحة من كل من الهند وباكستان، قرارين مزدوجين في 13 أغسطس 1948 و5 يناير 1949، يقضيان بتقرير المصير من خلال استفتاء في كشمير، بعد نزع السلاح من الإقليم.
وسرعان ما انخدع نهرو بتوهمه وجود شعبية للهند في كشمير، وعندما أدرك أن الكشميريين لن يصوتوا أبدًا للانضمام إلى الهند، تم التخلي عن فكرة الاستفتاء.
واختلقت الهند حجة تلو أخرى لرفض التعاون في إجراء استفتاء كشمير، وفي الخمسينيات من القرن الماضي تخلى رئيس الوزراء عن مظاهره بالامتثال لتفويضات مجلس الأمن، بإعلانه من جانب واحد أن كشمير أصبحت تحت سيادة الهند.
منطقة متنازع عليها:
ومنذ ذلك الحين، لم يتغير الكثير بشأن قضية تقرير المصير في كشمير، فقد دأبت الهند، لأكثر من 73 عامًا، على تحدي قراريْ مجلس الأمن بوقاحة بشأن الاستفتاء العام.
لكن الأمم المتحدة تواصل إدراج كشمير كمنطقة متنازع عليها، وأكد غوتيريش، في 8 أغسطس 2019، أن موقف المنظمة من الإقليم “يحكمه ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن المعمول بها.
جاء ذلك تعليقا على إلغاء الهند الوضع الخاص في منطقة “جامو وكشمير” وتقسيمها إلى إقليمين، في الخامس من الشهر نفسه.
ويرى ناظر جيلاني، رئيس “مجلس جامو وكشمير لحقوق الإنسان”، ضرورة العمل الجاد “لنظهر للعالم أن الهند اعتدت على كشمير وأعادت احتلالها بعد 5 أغسطس2019، وبذلك ارتكبت نيودلهي جريمة خطيرة للغاية”.
إن كشمير تعد مهمة جدًا للسلم والأمن الدوليين وحقوق الإنسان، فلا يمكن تركها لجهل وزير الداخلية الهندي أميت شاه أو للطموح المتعصب لرئيس وزراء الهند ناريندرا مودي.
وبدأ النزاع على إقليم كشمير بين باكستان والهند، منذ استقلالهما عن بريطانيا عام 1947، ونشبت 3 حروب في أعوام 1948 و1965 و1971، أسفرت عن مقتل قرابة 70 ألف شخصٍ من الطرفين.
ومنذ عام 1989، قُتل أكثر من 100 ألف كشميري، فضلًا عن اغتصاب أكثر من 10 آلاف امرأة، في ظل حكم السلطات الهندية، حسب جهات حقوقية.
ويشهد الجزء الخاضع لسيطرة الهند، وجود جماعات مقاومة تكافح منذ 1989 ضد ما تعتبره “احتلالًا هنديًا” لمناطقهم.
“الأناضول”
**الكاتب أمين عام “المنتدى العالمي للتوعية بكشمير” (مقره الولايات المتحدة)، الذي “يهدف للتوعية بانتهاكات حقوق الإنسان في إقليم كشمير”.