“تنافس الدنيا” مركب إضافي مؤلف من كلمتين هما: “تنافس” و”دنيا”، والأمر يقتضي معرفة ماهية كل منهما على حدة، كي يسهل تعريف هذا المركب “تنافس الدنيا”، ودونك ذلك: التنافس لغة: يأتي التنافس في اللغة على معان، منها:
أ – محبة الشيء، والرغبة فيه، وأصله من الشيء النفيس في نوعه يقال: نافست في الشيء منافسة، ونفاسة، ونفاسا، ونفس الشيء بالضم نفاسة، صار مرغوبا فيه محبوبا.
ب – الضن بالشيء أو البخل به، يقال: نفست عليه الشيء بالكسر أنفسه نفاسة: ضننت أو بخلت عليه به، وما أحب أن يصل إليه.
ج – رؤية الغير فاقد الأهلية للشيء مع حسده عليه، نقول : تنافس الشيء، وبالشيء على فلان: لم يره أهلا لهذا الشيء وحسده عليه.
د – التسابق، والتباري في الشيء من غير إلحاق الضرر به -أي بالتنافس – نقول: نافس فلان فلانا في كذا: سابقه وباراه من غير أن يلحق الضرر به، وتنافس القوم في كذا: تسابقوا فيه، وتباروا دون أن يلحق بعضهم – الضرر ببعض ، ومنه قوله سبحانه: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين). ولا تعارض بين هذه المعاني جميعا فإن رؤية الغير ليس أهلا للشيء أو للأمر قد تحمل أو تقود إلى التسابق والتباري في تحصيله رغبة فيه، ومحبة له، وضنا به على هذا الغير.
“الدنيا” لغة: والدنيا لغة، مؤنث الأدنى، يعني: الأقرب الألصق، يقال: هو ابن عمي دنيا (منون، وغير منون) قريب لاصق النسب، ثم صارت تطلق على الحياة الحاضرة أو العاجلة التي تسبق الحياة الغائبة أو الآجلة، وسميت بذلك لدنوها، أي لقربها منا، إذ يقال: دنا من الشيء دناوة، فيهو دان: قرب، أو لخستها، وحقارتها، إذا طلبت لذاتها، يقال: هذا دنيء: خسيس دون، أو لنقص وقصر عمرها في جنب عمر الآخرة، نقول: أعطى الدنية في دينه: النقيصة .
“تنافس الدنيا” لغة: وإذ عرفنا معنى كل من: “التنافس” و”الدنيا” على حدة، ونقول: إن “تنافس الدنيا” لغة: رؤية الغير أنه ليس أهلا للدنيا بصورة تحمل على التسابق والتباري في تحصيلها، رغبة فيها، ومحبة لها، وضنا بها على هذا الغير.
“تنافس الدنيا” اصطلاحا: أما “تنافس الدنيا” اصطلاحا فهو- كما يقول الإمام النووي – رحمه الله -: “التباري في الرغبة في الدنيا، وأسبابها وحظوظها ” ، ولعله يريد: “على وجه الانفراد، والاستئثار بها” على نحو ما جاء لغة، وواضح من هذا التعريف أنه لا يختلف كثيرا عن المعنى اللغوي.
بعض مظاهر تنافس الدنيا وموقف الإسلام من هذا التنافس:
وهناك مظاهر وسمات تدل على تنافس الدنيا، وأهم هذه المظاهر وتلك السمات:
1 – إهمال أو إهدار الورع في المطاعم، والمشارب، والملابس، والمراكب ونحوها. 2 – بغض طلاب الآخرة، والنيل منهم، بل والتظاهر والتحريف عليهم بوسيلة أو بأخرى.
3 – بغض أو معاداة كل من يسبقه في الدنيا، ولا يستطيع اللحاق به.
4 – ازدراء نعمة الله وعدم الرضى بها وبقضاء الله وقدره.
5 – المخاصمة المستمرة على الدنيا وما فيها من متاع أو عرض زائل.
6 – التشتت الدائم مع كثرة الهموم والأحزان، ولا سيما عند فوات شيء من الدنيا. 7 – الاشتغال الدائم بالسعي في طلب الدنيا مع نسيان الآخرة بالمرة أو مع تذكرها، ولكن بتهاون وفتور.
8 – الحديث الدائم عن الدنيا، وزخارفها، وزيناتها، وسبل اقتناصها… وهلم جرا. وتنافس الدنيا للدنيا مع نسيان أو إهمال الآخرة قبيح مذموم، كما شهدت بذلك نصوص الكتاب والسنة. أما نصوص الكتاب فقوله تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور{ (الملك). }وفي ذلك فليتنافس المتنافسون{ (المطففين) . }لمثل هذا فليعمل العاملون{ (الصافات). }ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون{ (الجمعة). }وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين{ ( آل عمران). }اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم{ (الحديد).
إن هذه النصوص حين تتحدث عن الآخرة، تدعو صراحة إلى المنافسة والمسارعة، والمسابقة، والسعي، وحين تتحدث عن الدنيا تدعو صراحة إلى المشي الهوينا، والانتشار في الأرض، وعدم التكالب أو التنافس في طلب هذه الدنيا.