المعادلة التي فهمتها الدول الغربية، ولم تفهمها بعض الدول العربية هي أن تكلفة حظر التجول الشامل والمشدد، لمواجهة فيروس كورونا ستكون باهظة، وهي على الأغلب أكبر بكثير من تكلفة انتشار الفيروس نفسه، على الرغم من أنَّ الحظر يؤدي إلى خسائر أكيدة في مقابل ثمار غير مضمونة، بينما عدم فرضه لا يعني بالضرورة أن الفيروس سينتشر، وإنما الانتشار في هذه الحالة يظل مجرد احتمال.
بعض الدول العربية فرضت على مواطنيها حظر تجوال شاملا ومشددا، ووصل الأمر إلى اعتقال وتغريم المخالفين لضمان التعطيل الكامل للبلاد والعزل التام بين الناس، وهذا ربما يكون مجديا في الحد من انتشار الفيروس، لكنه ذو تكلفة باهظة جدا على البلاد، سواء التكلفة الاقتصادية أو التكلفة الصحية، وهو ما يطرح السؤال الأهم: هل مكافحة كورونا تستحق أن ندفع كل هذه التكلفة؟
هذا السؤال أجابت عليه بطبيعة الحال الولايات المتحدة وأوروبا وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ والعديد من الدول المتقدمة في العالم، ورجحت الإغلاق الجزئي أو الحظر الجزئي، أي الاكتفاء بإغلاق المنشآت التجارية والعامة، التي تحدث فيها تجمعات أو تواصل اجتماعي كبير، مثل المقاهي والمطاعم والبارات والجامعات والمدارس، بينما تجنبت هذه الدول فرض حظر تجوال على الناس، أو منع الناس من العمل بشكل كلي أو تقييد خروجهم من منازلهم. أما بعض الدول العربية فقد لجأت إلى حظر التجوال الشامل والكامل والمشدد، وفرض العقوبات المشددة على المخالفين، وهو إجراء تكلفته ستكون أكبر من تكلفة المرض ذاته في حال انتشاره، وعلى المستوى الصحي فإن المعادلة هنا ليست معقدة فنسبة الوفيات في أوساط المصابين بفيروس كورونا لا تتجاوز 2%، أما نسبة الوفيات في أوساط المرضى الذين يرزحون تحت حظر تجوال مشدد فسوف تزيد عن 2% بكل تأكيد، لأن حظر التجوال يؤدي إلى تعطيل الكثير من الخدمات، من بينها الصيدليات والعيادات الخاصة والمواصلات، التي يمكن استخدامها في الحصول على الخدمات المختلفة. على المستوى الاقتصادي أيضا فإن التكلفة باهظة، وسوف يؤدي حظر التجوال الشامل والمشدد إلى مشاكل اقتصادية أعمق من تلك التي ستشهدها الدول الأخرى، وعندها سوف ترتفع نسب البطالة، ويتعمق مستوى الفقر وتنخفض الدخول المالية، لمن لم يفقدوا وظائفهم وتنخفض القدرة الشرائية للعملة لمن لم يفقدوا أموالهم، وهذا كله سوف يؤدي على الفور إلى تدني مستوى الخدمات الطبية والرعاية الصحية، كما ستؤدي هذه الظروف إلى مزيد من المشاكل الاجتماعية، وهذا كله سيعني أننا تجنبنا كورونا، لكننا انزلقنا إلى مشاكل أكبر وأعمق وأطول أمدا من الفيروس الذي يستقر في جسم المريض 14 يوما ثم يرحل.
في الأردن فقدت طفلة رضيعة حياتها بسبب حظر التجوال المشدد قبل أيام، وما زلنا لا نعلم كم عدد المرضى الذين لا علاقة لهم بكورونا، لكنهم فقدوا حياتهم بسبب وجود الحظر كالمصابين بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية وارتفاع ضغط الدم وهبوط السكر، وغيرها من الحالات الطارئة، التي عادة ما يمكن إنقاذها بشرط تقديم الرعاية السريعة والمبكرة لها. ولا نعلم أيضا كم عدد الذين فقدوا وظائفهم في الأردن؟ ولا كم أصبحت نسبة الفقر؟ ولا حجم الخسائر التي تكبدها الاقتصاد؟ لكننا نعرف أن نسبة البطالة في الولايات المتحدة ارتفعت من 3% في فبراير/شباط الماضي إلى 15% في مايو/أيار الحالي، وأن نحو 40 مليون أمريكي أصبحوا يعيشون على الإعانات، على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تتعطل فيها الحياة بشكل كلي، ولم تفرض حظرا للتجوال، ولم تغلق المطارات ولا الحدود.. فما هو الحال اليوم إذن في بلد مثل الأردن؟
ثمة معادلة اقتصادية بسيطة أيضا يمكن استخدامها لحساب الخسائر الاقتصادية المباشرة، ففي بلد مثل الأردن يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للبلاد 44 مليار دولار، وفرض حظر التجول الشامل يعني التعطيل الكامل للحركة الاقتصادية، وهذا يعني أننا نتحدث عن خسارة مباشرة للاقتصاد تبلغ 120 مليون دولار أمريكي عن كل يوم حظر. من المهم هنا أيضا التذكير لما أشرنا له سابقا وعدة مرات بأن الدول العربية استغلت كورونا من أجل تحقيق مآرب سياسية واقتصادية، والاستفادة من حالة الخوف والهلع التي تنتاب الناس، فما كان يرفضه الناس في أوقات الرخاء أصبحوا يقبلون به في أوقات الشدة، كما أن الأنظمة السياسية وأجهزتها الأمنية تستعيد بفضل هذا الخوف نفوذها وهيمنتها.
الخلاصة المهمة هنا هو أن على الدول العربية أن تبدأ العودة فورا عن حظر التجوال وإجراءات الإغلاق المشددة، وأن تعود للحياة الطبيعية تدريجيا، لأن الخسائر التي تكبدتها حتى الآن تحتاج لسنوات من أجل التعافي، كما أن فيروس كورونا على الرغم من أنه خطر، وقد يؤدي إلى الوفاة إلا أن الجوع والفقر والركود الاقتصادي كلها مصائب خطرة، وقد تؤدي إلى الوفاة أيضا وعلى بلادنا أن تعمل ما بوسعها لتتجنبها.