تصريحات أردوغان نحو “إسرائيل”: لماذا الآن؟

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : سعيد الحاج

في تصريحات له قبل ثلاثة أيام، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده “تريد أن تصل بعلاقاتها مع إسرائيل إلى نقطة أفضل”، مشيراً إلى وجود مشكلة مع “شخصيات على أعلى مستوى في إسرائيل”، مؤكداً استمرار العلاقات بين الطرفين على المستوى الاستخباري.

في المقابل، أكد اردوغان على الخلافات مع تل أبيب مشيراً إلى أن “تصرفاتهم التي تفتقر إلى الرحمة هناك” (والمقصود فلسطين) غير مقبولة بالنسبة لبلاده، وأن “السياسة تجاه فلسطين خط أحمر بالنسبة لنا”، ما فسره كثيرون على أنه توجه من تركيا لتطوير علاقاتها مع “إسرائيل”، خصوصاً وأنها أتت بعد عدة إشارات بنفس الاتجاه خلال الأشهر الماضية.

فقبل أشهر من الآن، قدمت تل أبيب إشارات إيجابية تجاه أنقرة، على شكل تغريدات تثمّن العلاقة معها ومقالات كتبها مسؤولون حاليون وسابقون في الإعلام التركي، وتحدثت تقارير إخبارية عن لقاءين جمعا رئيسَيْ جهازي الاستخبارات من الطرفين.

أما مؤخراً، فقد تواترت الإشارات أكثر في الاتجاه المعاكس، أي من أنقرة تجاه تل أبيب. فقد تحدث تقرير لموقع “المونيتور” عن لقاء جمع بين رئيسَيْ الاستخبارات مجدداً، بهدف نقاش تطوير العلاقات وإعادة السفيرين، وهو تقرير لم تعقّب عليه تركيا بالنفي ولا الإيجاب. كما ذكرت عدة تقارير إخبارية “اختيار” أنقرة سفيراً جديداً لها في تل أبيب، وإن لم “يُعيَّن” أو يُرسل إلى هناك مع حملة تغيير السفراء التي أجريت في التاسع من الشهر الجاري.

كما أن مستشار الرئيس التركي للسياسة الخارجية، أسعد جاشين، قال في حوار مع “صوت أمريكا” قبل أيام إن بلاده “يمكن أن تخطو نحو إسرائيل خطوتين” إن بدأت الأولى بخطوة، متوقعاً عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة في آذار/ مارس المقبل، وأكد أن بلاده “لا تريد أزمة أخرى مع إسرائيل بعد حادثة سفينة مرمرة”. ثم أتت تصريحات أردوغان بعد كل هذه الإشارات لتضع سؤال العلاقات بين الجانبين واحتمالات تطورها على طاولة النقاش.

كانت العلاقات بين الجانبين قد تراجعت بشكل جذري إثر الاعتداء على سفينة مافي مرمرة في 2010 والتي سقط فيها 10 شهداء أتراك، قبل أن تعود العلاقات الدبلوماسية مع اتفاق تطبيع العلاقات بوساطة أوباما في 2016. في أيار/ مايو 2018، سحبت تركيا سفيرها وأعلنت السفير “الإسرائيلي” شخصاً غير مرغوب فيه على أرضها، احتجاجاً على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والتعامل الأمني الوحشي لقوات الاحتلال مع متظاهري مسيرات العودة في غزة.

اليوم، ومع حديث أردوغان عن رغبة بلاده في تطوير العلاقات مع تل أبيب، تجدر الإشارة إلى أن شيئاً لم يتغير في أسباب سحب السفراء في 2018، بل لعل الأوضاع تفاقمت أكثر مع إعلان “صفقة القرن” ومخطط الضم وما إلى ذلك، بل ومع تقييمات “إسرائيلية” باتت تضع تركيا مؤخراً ضمن قائمة مهددات الكيان الصهيوني.

أكثر من ذلك، فصيغة “العلاقات على مستوى الاستخبارات مستمرة” استخدمها أردوغان سابقاً مع نظامَيْ الأسد والسيسي فقط، أي مع أطراف العلاقات معها بالحد الأدنى، بمعنى أنها صيغة يعبّر بها أردوغان عادة عن تردّي العلاقات لا تحسنها.

وعليه، تبدو الإشارات التركية لتحسين العلاقات مع تل أبيب مرتبطة بسياقات أخرى أكثر مما لها علاقة بتل أبيب مباشرة، وتتبدى في هذا الإطار ثلاث ملفات رئيسة:

الأول، الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة بايدن، حيث ترغب أنقرة بتجنب أزمة كبيرة معه، ويبدو أن أنقرة تقدّر أن تحسين العلاقات مع تل أبيب قد يرطـّب الأجواء مع واشنطن.

الثاني، ملف شرق المتوسط، حيث تسعى تركيا لتفتيت – إن أمكن – التحالف المواجه لها أو إضعافه بالحد الأدنى، حيث أن تقارب “إسرائيل” معها قد يوتر علاقاتها مع اليونان وقبرص اليونانية، لا سيما إذا ما تضمن ترسيم الحدود البحرية كما تريد أنقرة.

الثالث، تحالف الإمارات مع “إسرائيل” والذي ترى أنقرة نفسها أحد المستهدفين منه، ويبدو أن هناك رغبة تركية في إبعاد الطرفين عن بعضهما قدر الإمكان من خلال استمالة الثانية.

رغبة أنقرة في تحسين وضعها في هذه الملفات الثلاثة هي ما دفعها للتفكير ثم التلميح ثم السعي لتطوير العلاقات مع تل أبيب، وهو ما يضعنا أمام احتمالين كلاهما وارد: أن تكون راغبة فعلاً في التقارب، أو أن تكون تناور فقط لكسب الوقت ومحاولة الكسب. ولكن يبدو أن هذه المناورة مقرءة بشكل جيد من قبل مختلف الأطراف، وخصوصاً تل أبيب، ما يطرح علامات استفهام على مدى نجاحها.

بيد أن هناك أموراً أخرى ينبغي على أنقرة أن تضعها كذلك في حسبانها:

الأول، أن تل أبيب متشككة في نواياها ومتمهلة جداً فيما يتعلق بالعلاقات معها. كثير من التقارير “الإسرائيلية” قد قرأت الخطوة التركية على أنها مناورة تهدف لإرضاء أطراف أخرى، وليست رغبة صادقة في تحسين العلاقات معها. وهو ما يضع تركيا في إطار اللاهث نحو العلاقة بينما “إسرائيل” هي المتمنـّعة، فضلاً عن أن مآلات المسار ليست مضمونة بالنسبة لأنقرة وفق هذا التقييم.

الثاني، تقدير “إسرائيل” بأن تركيا تسعى للتقارب معها مضطرة ولأسباب خارج إطار العلاقة الثنائية، بينما هي متمهلة وحذرة، قد يجعل يدها أقوى في الاشتراطات والمطالب بين يدي تحسين العلاقات. وإذا ما كان هدف تركيا هو الولايات المتحدة وليس “إسرائيل”، فإن هناك من يرى بأن ذلك قد يرفع مطالب الثانية لتكون بمثابة ضغوط واشتراطات من الثانية، وهو ما سيضعف الموقف التركي، وبذلك تكون أنقرة وكأنها نصبت فخاً لنفسها دون أن تدري.

الثالث، أن أنقرة – فيما يبدو – لا تضع في حسبانها متغيرات الجبهة الداخلية في الكيان الصهيوني من عدم استقرار وتكرار الانتخابات وغموض المستقبل، ما يعني أنها تقدم مبادراتها في الوقت الخاطئ، وبما قد يجعلها تدفع ثمناً قد لا تكون مضطرة له في وقت لاحق وظرف أفضل بالنسبة لها.

الرابع، العلاقات التركية- الأمريكية معقدة، وهناك ملفات خلافية يطرحها الجانبان لا علاقة مباشرة لها بالكيان الصهيوني، ما يعني أنه ليس هناك ضمانة بأن يؤدي تحسين العلاقات مع تل أبيب لتهدئة الأوضاع مع واشنطن، بل قد يجعلها عبئاً إضافياً على تركيا لا أكثر.

الخامس، صعوبة أن تتخلى تل أبيب عن شبكة تحالفاتها مع اليونان وقبرص والإمارات (وغيرها) من أجل “علاقة غير مضمونة” مع تركيا وفق رؤيتها، حيث تردد تقاريرهم بأن أردوغان عادة ما ينقلب عليهم و”لا يفي بتعهداته”.

السادس، أن تركيا صدّرت موقفاً حاداً جداً من الاتفاق الإماراتي- البحريني مع “إسرائيل”، وآخَرَ أهدأ منه لدى الاتفاق البحريني. فكيف ستكون صورتها اليوم وهي تسعى لتحسين العلاقات مع الكيان الصهيوني بعد أسابيع فقط من هذين الموقفين؟

صحيح أنه لا مقارنة بين الموقفين التركي والإماراتي مثلاً في الدوافع والأسلوب، وصحيح أن العلاقات مع تل أبيب لن تعود يوماً لحالة التحالف الاستراتيجي التي كانت قائمة في تسعينيات القرن الماضي، إلا أن ذلك لا يخرج الأمر من سياق التطبيع وتطوير العلاقات معها في ظل مسار التطبيع العربي وصفقة القرن ومشاريع تصفية القضية الفلسطينية والضم.. الخ.

في الخلاصة، تبدو أنقرة كمن يسعى لتحسين العلاقة من طرف واحد، وهو ما يزيد الضغوط عليها من حيث أرادت تخفيفها، ويزيد من الثمن الذي من الممكن أن تدفعه في سبيل تطوير العلاقات، إذ وضعت نفسها – انطباعاً او حقيقةً – في صورة المضطر المستعجل بينما الطرف الآخر متمهل حذر. أكثر من ذلك، ستضع تركيا نفسها في نفس الصورة الانطباعية مع أنظمة أخرى لهثت نحو التطبيع والتعاون مع الاحتلال، بعد أن كانت كسبت الكثير على صعيد العلاقات والرأي العام إثر تخفيضها مستوى العلاقات.

أخيراً، قد يقال إن تركيا هنا تبحث عن مصالحها وإن هذا حق لها، ونقول إن كل الأنظمة التي طبّعت مع الاحتلال قالت نفس الشيء، وإن اختلاف مستوى العلاقات وعوامل أخرى كثيرة لا تضع جميع الأطراف في نفس المستوى، لكنها تضعهم بالتأكيد في مصاف التطبيع الذي لن يلقى إلا التنديد والشجب.

ونقول إن المصالح لا تسوّغ الذهاب نحو علاقات أفضل مع الاحتلال، فأي تطوير للعلاقة معه هي انتقاص للحقوق الفلسطينية وضرر للقضية الفلسطينية ولتركيا، فضلاً عن أن المصالح المتوخّاة ليست حقيقية بالأصل وإنما متوَهَّمة إلى حد كبير.

كما أن هناك خيارات أخرى، داخلية وخارجية، أمام تركيا لتجنب أزمة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، في مقدمتها إصلاحات داخلية حقيقية أعطت نفسها إشارات على إطلاقها، وتخفيف التوتر مع حلفاء آخرين للولايات المتحدة مثل السعودية ومصر، بما يضمن لها – إضافة لتخفيف التوتر – شروطاً أفضل في شرق المتوسط وجلب استثمارات أكثر للبلاد ومصالح أخرى كذلك.

اكتب تعليقك على المقال :