منذ عقود طويلة، وسؤال الانتخابات الأمريكية، وأي المرشحيْن الرئيسيْن أفضل للمصالح العربية والإسلامية، مطروح في الأوساط السياسية العربية والإسلامية، بخاصة فيما يتعلق بالقضية المركزية للأمة الإسلامية (فلسطين).
ولا شك أن السؤال هذه المرة يبدو أكثر شيوعا من أي مرة سابقة، وبالطبع بسبب طبيعة الرئيس الحالي الفريدة؛ ليس لجهة غياب الوعي السياسي والاشتباكات التي خاضها في الداخل والخارج وحسب، بل أيضا لحجم الانحياز الهائل للكيان الصهيوني، وحيث يُجمع كل الخبراء الصهاينة على أن أحدا لم يدخل البيت الأبيض في تاريخ الولايات المتحدة، وكان بهذا المستوى من الانحياز للكيان الصهيوني، لدرجة أن كثيرين كانوا يتحدثون عن لون من ألوان “الحب القاتل”، والذي يدفع الكيان إلى مستوى من الغطرسة قد يرتد عليه بمرور الوقت.
هذه السطور ليست مخصصة لسؤال من سيفوز، لا سيما أن هناك الكثير من الكلام على هذا الصعيد، فيما تذهب أغلب الترجيحات إلى أن بايدن هو الأوفر حظا، لكن لا بأس من القول إن الأمر يبدو كذلك، ليس فقط بسبب فقدان ترامب للورقة الأهم التي كان يراهن عليها من أجل الفوز، أعني الازدهار الاقتصادي، بسبب تداعيات كورونا، ولكن أيضا لأن “الدولة العميقة” تبدو أكثر إصرارا هذه المرة على التخلص منه، وما مسلسل الكتب التي أمعنت في فضحه عنها ببعيد.
في المرة الماضية كانت الدولة العميقة تريد فوز هيلاري كلينتون، كأول رئيسة (امرأة)، بعد أول رئيس أسود، لكنها فشلت لأنها كانت مطمئنة تماما إلى أن شخصية ترامب ليست مرشحة للفوز، ولا حاجة تبعا لذلك إلى أي جهد.
اليوم تبدو الدولة العميقة أكثر إصرارا على فوز بايدن، ليس فقط بسبب صدام ترامب معها، وطبيعة شخصيته التي لا يمكن توقعها، بل أيضا لأنها تريد بايدن (كما يبدو) كثاني كاثوليكي يصل إلى الرئاسة بعد كينيدي الذي انتهى مقتولا.
نأتي هنا إلى سؤال أيهما أفضل.
هنا تبرز معادلة بالغة التعقيد لم يسبق لها مثيل في المنطقة، وتتعلق بحجم التناقضات بين محاورها الكبرى والصغرى، وحيث الحريق الهائل الذي يستنزف الجميع، بين محور “الثورة المضادة” من جهة، والمحور الإيراني من جهة أخرى، بجانب المحور التركي الذي أصبح استهدافه أولوية للثورة المضادة، وكل المحاور المذكورة في حالة اقتتال متعدد الأشكال، ما يعني أن رغباتها على صعيد السؤال الذي نحن بصدده لا تبدو منسجمة.
الذي لا شك فيه أن محور “الثورة المضادة” يريد فوز ترامب، اعتقادا منه بأنه سيواصل الضغط على إيران، فيما لن يكون من الصعب تحريضه من خلال الصهاينة على تركيا. لكن هذا المحور لا يضع كل بيضه في سلة ترامب، فهو ذهب بعيدا في مجاملة الكيان الصهيوني، وتبعا له اللوبي في الولايات المتحدة، من أجل كسب بايدن أيضا، ذلك أن الأخير ليس أقل انحيازا للكيان من ترامب، لكنه أكثر عقلانية، وهو يميل إلى ذات الأصوات الموجودة في الكيان ذاته، وفي أوساط اللوبي الصهيوني، والتي ترى أن انحياز ترامب يقترب من الهوس الذي يهدد بدوره مصالح الكيان، وقد يؤدي إلى تفجير الوضع الفلسطيني، على نحو يقلب الطاولة في وجه الجميع.
كلاهما سيكون سيئا، لأنهما يحكمان دولة إمبريالية تعادي أشواق شعوبنا في الحرية والتحرر، وإن تفاوت الأمر قليلا في هذا الملف أو ذاك
لا يمكن لأحد أن يشك في علاقة بايدن بالكيان الصهيوني، فهي علاقة متينة تمتد لعقود مضت. ففي العام 1986، وحين كان عضوا في مجلس الشيوخ، قال إنه “إذا لم تكن إسرائيل موجودة، فستضطر الولايات المتحدة إلى اختراع إسرائيل لحماية المصالح الأمريكية”. وذات مرة نُقل عنه القول: “إذا كنت يهوديا، فسأكون صهيونيا. والدي أشار إلى أنه لا يشترط عليّ أن أكون يهوديا كي أصبح صهيونيا، وهذا أنا. إسرائيل تعتبر ضرورية لأمن اليهود حول العالم”.
ويعرف الجميع أن اليهود في الولايات المتحدة كانوا دائما أكثر قربا من الحزب الديمقراطي، وإذا أضفنا مواقف نائبته (كامالا هاريس) المؤيدة للكيان، فسيكون الموقف واضحا، لا سيما أنه وعد بأن لا يعيد السفارة الأمريكية من القدس إلى تل أبيب، كما أن الحديث عن انقلابه على سياسة ترامب حيال إيران لا يبدو واقعيا، وإن مال إلى البحث عن صيغة للتفاهم معها.
هل يعني ذلك أن ترامب وبايدن سواء، فيما يتعلق بالملف الفلسطيني؟
أميل إلى أن ترامب أفضل، لكن الأمر سيعتمد في الحالتين على الصراع القائم بين اللوبي الصهيوني في أمريكا وبين نتنياهو على إدارة الملف، وماذا إذا كان ينبغي العودة إلى سيارة الاستدراج التقليدية، أم الذهاب إلى السياسة المتطرفة التي تريد تصفية القضية سريعا، استغلالا لحريق الإقليم الراهن.
من هنا يبدو ترامب أفضل بكثير، إذ إنه يفضح العملية برمتها، ويفضح المتآمرين والمتواطئين، وقد يفرض على قيادة السلطة أو “فتح” أن تنحاز لخيار المقاومة، كي لا تتم تصفية القضية، وقبل ذلك ترتيب قيادة في رام الله تقبل بالوضع البائس الراهن، وإن من دون توقيع على شيء، أي عبر الحل الإقليمي الذي يعني تطبيعا عربيا واسعا، وتحسينات في وضع السلطة، تحيل المؤقت إلى دائم، والصراع إلى مجرد نزاع. لكن ذلك كله لا يغير في حقيقة أن عباس يفضل بايدن، لأن بقاء المراوحة الطويلة هي الأفضل بالنسبة إليه.
إيران تريد بايدن على أمل الخروج باتفاق معه يوقف نزيفها الاقتصادي المرعب
هكذا يمكن القول إن محور “الثورة المضادة” يريد ترامب، وإن انبطح أمام الصهاينة من أجل ضمان انسجام بايدن مع ما يريد. أما إيران فتريد بايدن على أمل الخروج باتفاق معه يوقف نزيفها الاقتصادي المرعب، وإن بالتخلي الفعلي عن المشروع النووي، دون المسّ بمشروع الصواريخ بعيدة المدى، والتي يريدها ترامب أيضا، ولا يعرف هل سيصر عليه بايدن أيضا أم لا. وتبقى تركيا التي يناصبها بايدن العداء، فيما لا يمكن ضمان موقف ترامب منها، تبعا لتصنيفها من ألد الأعداء بالنسبة للكيان، وللوبي الصهيوني تبعا له.
هكذا نصل إلى النتيجة التقليدية، وهي أن كليهما سيكون سيئا، لأنهما يحكمان دولة إمبريالية تعادي أشواق شعوبنا في الحرية والتحرر، وإن تفاوت الأمر قليلا في هذا الملف أو ذاك.
ولكن ماذا عن البعد الخارجي المتعلق بالصراع الأمريكي الأكبر مع الصين وروسيا، وما صلة ذلك بمنطقتنا؟
هنا يبدو ترامب هو الأفضل، فهو سيذهب بعيدا في التصعيد مع الصين، وقد يضطر إلى ذلك مع روسيا تحت ضغط الدولة العميقة، ما يعني أن تدافعا كبيرا في المشهد الدولي، سيفرض تحالفات جديدة، وستضطر أولئك الكبار إلى محاولة كسب الآخرين إلى جانبهم.
كلما كان الصراع الدولي أكثر احتداما، كان ذلك في صالحنا، وصالح كل القوى المستضعفة. وترامب هو الأفضل هنا، لكن بايدن لن يغير الاستراتيجية الرسمية في مواجهة الصين وروسيا، وإن كان أكثر دبلوماسية في كسب الحلفاء، خلافا لترامب الذي يتعامل بمنطق التاجر وليس السياسي.
المشهد في الخلاصة فيما يتعلق بأمتنا يتمثل في بعدين؛ الأول هذا الحريق الإقليمي الذي يستنزف الجميع ولا سيما القوى الثلاث الكبرى (تركيا وإيران ومصر)، بجانب الباحثين عن أدوار أكبر، مثل السعودية والإمارات. أما البعد الثاني فيتعلق بالصراع الدولي، بخاصة بين الصين وأمريكا، واحتمالات تصاعده إلى ما هو أسوأ من الحرب الباردة بين الأخيرة وبين الاتحاد السوفياتي.
صراعان كبيران، لن تظهر نهايتهما سريعا، لكننا نأمل (أو نتوقع) أن تنطبق عليها سنّة التدافع الربانية التي جعلها الله بمثابة “فضل على العالمين”.