لا تخلو الساحة السياسية والإعلامية الصهيونية من بعض أصوات، وربما الإنسانية أحيانا، وإن بقيت في إطار “الدولة الإسرائيلية ومصالحها”؛ باستثناء جماعة دينية صغيرة (جماعة ناطوري كارتا) لا تعترف بشرعية تلك الدولة.
تتكفل هذه الأصوات أحيانا بفضح الكثير من تاريخ دولة العدو، كما فعل من عُرفوا بـ”المؤرخين الجدد” قبل أكثر من 4 عقود، حين أفرجت السلطات الصهيونية عن وثائق الاحتلال الأولى بعد مضي 30 عاما عليها، وقدموا روايات جديدة عن فظائع الاحتلال، والمذابح وعمليات التهجير التي تم تنفيذها.
ما نحن بصدده في هذه السطور هو كتاب جديد نُشر حديثا في الكيان الصهيوني، بعنوان “سرقة الممتلكات العربية في حرب الاستقلال”. و”حرب الاستقلال” هو المصطلح الصهيوني لاحتلال عام 48، أو “النكبة”، وفق المصطلح الفلسطيني.
لم نقرأ الكتاب، بل قرأنا مراجعة له في صحيفة “هآرتس”، كتبها الصحفي “عوفر أديرت”.
يقول الأخير: “في 24 تموز 1948؛ بعد شهرين على قيام الدولة، قال رئيس الحكومة (بن غوريون) أشياء قاسية جدا عن المجتمع الإسرائيلي. مما قاله: “تبين أن معظم اليهود لصوص.. أنا أقول ذلك بصورة متعمدة وببساطة. لأن هذه هي الحقيقة مع الأسف”.
وفق “أديرت”، فإن “هذه الأقوال مكتوبة، حرفيا، في محضر جلسة لمركز “مباي”، المحفوظ في متحف حزب العمل”.
ويضيف بن غوريون: “أبناء الغور سرقوا! الرواد من بين الطلائعيين، وآباء أبناء البلماخ! وقد شارك الجميع في السرقة، الحمد لله؛ أيضا أبناء نهلال! هذه ضربة شاملة. هذا أمر مخيف، لأن هذا يكشف بعض الخلل الأساسي. سرقة وسطو.. من أين جاءنا هذا؟”.
الكتاب وثّق ما وجده عن “سرقة الممتلكات العربية من قبل اليهود في حرب الاستقلال؛ من طبريا في الشمال وحتى بئر السبع في الجنوب. من يافا وحتى القدس؛ مرورا بمساجد وكنائس وقرى منتشرة بين المستوطنات”.
“النتيجة كانت صادمة”؛ وفق الكاتب، إذ شمل ذلك “أجزاء كبيرة من الجمهور الإسرائيلي، مواطنين ومحاربين على حد سواء”.
وشملت السرقة “محتويات عشرات آلاف البيوت والحوانيت، المعدات الميكانيكية، المصانع، المحاصيل الزراعية، الأغنام وغيرها. وشملت أيضا؛ كتب، ملابس، مجوهرات، طاولات، أجهزة كهربائية، محركات وسيارات”.
أما “النقاش حول مصير الأراضي والمباني التي تركها الـ 700 ألف لاجئ عربي ممن هربوا أو طردوا في الحرب، فيتركه لباحثين آخرين”، إذ ركز “على الممتلكات المنقولة فقط، أي الممتلكات التي كان يمكن تعبئتها في أكياس وتحميلها في سيارات”.
في المراجعة الطويلة للكتاب، حكايات بالغة الإثارة يصعب نقلها جميعا؛ عن جنون النهب الذي أصاب الصهاينة، ولك أن تتخيّل بعد ذلك ما أورده الكتاب ذاته من حكايات.
بعد احتلال حيفا كتب “بن غوريون” في مذكراته عن سطو شامل وكامل في حي وادي النسناس (في المدينة) نفذه أعضاء منظمتي “الإيتسل” و”الهاغاناه”.
وحتى الصحف كتبت عن النهب في حينه. في “هآرتس” نشر في نهاية 1948 مقال بقلم آريه نيشر، قال فيه: “تبين أن إخواننا بني إسرائيل تعلموا أيضا هذه المهنة (السرقة) وبصورة شاملة تماما كعادة اليهود.
وفي صحيفة “معاريف” كتب صحافي آخر شارك في جولة في القدس في تموز 1948: “هلموا أيها القضاة ورجال الشرطة، إلى القدس العبرية، لأننا أصبحنا مثل كل الأغيار.. طوال الطريق لا يوجد بيت أو حانوت أو ورشة لم يتم إخراج كل شيء منها”.
أما الأكثر إثارة بالنسبة لصاحب الكتاب، فيتمثل في أن اللصوص لم يكونوا جميعا قادمين من البعيد، بل هناك من كانوا ممن يعيشون في فلسطين، بجانب الفلسطينيين، لكن ذلك لم يمنعهم من سرقة “جيران الأمس”.
قد يبدو الحديث عن السرقة أمرا هامشيا، بجانب ما كشفه “المؤرخون الجدد” سابقا عن المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، والتي لم يكن لها من هدف سوى تهجير الشعب الفلسطيني، حيث كانت الخطة هي التهجير الكامل، لكن الأمر لم يتم لأسباب عديدة تتعلق بالوضع الدولي في حينه، مع العلم أن حلم تطهير فلسطين من غير اليهود، ما زال يراود العقل الصهيوني، وإن ذهب راهنا إلى مسار التهجير الناعم، وربما استغلال ظروف قد تستجد لاحقا.
لكن الشهادة الجديدة تبقى ذات قيمة مهمة في سياق كشف أخلاقيات الغزاة، في ذات الوقت الذي تفضح الكثير من الهرطقة التي يروّجها بعض صهاينة العرب الجدد، حول بيع الفلسطينيين لأراضيهم وممتلكاتهم، ويكشف الجريمة التي ارتكبت بحقهم.
إنها جرائم لا تسقط بالتقادم، لا سيما أن هناك شعبا ما يزال مصرّا على استعادة حقوقه، ومن ورائه أمّة لا تعترف بأي شبر من فلسطين للغزاة، ولا تقبل لا بـ”المبادرة العربية”، ولا بالقرارات الدولية من قبلها.
وستبقى كذلك، مهما طبّع المطبّعون، وانبطح المنبطحون، ومهما رقص الساقطون في زفة ترويج غزاة أشقياء عينهم على تسيّد المنطقة برمتها، وليس مجرد العيش بأمن وأمان.