“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى”.
كان ذلك الوعد في نوفمبر من عام ١٩١٧م، أي قبل مائة وثلاثة أعوام من اليوم. الوعد كان من بلفور وزير خارجية بريطانيا باسم ملك بريطانيا، التي كانت يومها تخوض حربًا عالمية ضد الخلافة التركية، التي كانت صاحبة السيادة على فلسطين.
الوعد لم يبق عملا سريا، بل خرج للعلن في أثناء الحرب، ولكن القادة العرب الطامعين بكراسي الحكم في بلادهم بعد طرد الأتراك تغافلوا عن الوعد، واستمروا في دعم بريطانيا، ذلك أنهم قدموا حبهم للرئاسة على فلسطين، وعلى حبهم للأقصى. وكانت النتيجة أن العرب هزموا تركيا، ووضعوا فلسطين في أنياب الأسد البريطاني الذي نفذ وعد بلفور على مرأى ومسمع من قادة العرب قبل مائة عام.
كانت فلسطين الدرة الثمينة، والجوهرة الفريدة، مسرى النبي وعش الأنبياء، ومهبط الرسالات، رخيصة عند قادة تلك المرحلة أمام كرسي الحكم، حتى وإن كان الكرسي تابعا للانتداب البريطاني، الذي لم يمنح الدول العربية استقلالها. كانت فلسطين الغالية رخيصة عندهم، واستمرت كذلك رخيصة حتى شهدنا من أحفادهم من يعترف (بإسرائيل)، ويطبع معها، ويقدم رضاه على رضا الله ورسوله، ولا أقول على رضا الفلسطينيين؟
اليوم، ونحن في الذكرى الثالثة بعد المائة للوعد المشئوم نستطيع القول: إن جل قادة العرب أرخصوا فلسطين أولا فلم يعملوا شيئا بعيد الوعد، ولم يعملوا ثانيا شيئا ذا مغزى بعد قيام إسرائيل، وانتهوا ثالثا إلى الإقرار بحق (إسرائيل) في الوجود على الأرض الفلسطينية على حساب الحقوق الفلسطينية، ويتهمون رابعا الفلسطينيين بالفشل في خدمة قضيتهم، ويطلبون منهم الاستسلام للأمر الواقع والقبول بصفقة نتنياهو ترامب؟!
إذا كان المجلس الوطني محقًّا في أن يطلب من بريطانيا الاعتذار عن الوعد، فإن المنطق يدعو للقيام بمراجعة لعمل كل الأطراف التي أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في النكبة، وفي تسهيل أمر قيام دولة إسرائيل، والتطبيع معها، سواء أكانوا هؤلاء فلسطينيين أم عربًا، أم غيرهم، لأن الاعتذار عن الوعد لم يعد ذا مغزى بعد أن تحولت (إسرائيل) إلى دولة قوية يخطب ودها قادة العرب، ناهيك بقادة من فلسطين. بلفور كان مجرما حقيقيا، ولكن هل كان هو المجرم الوحيد؟! ماذا عن بقية المجرمين؟!