الحمد لله العلي الكبير اللطيف الخبير، القائل في محكم التنزيل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الجمعة: 2)، والصلاة والسلام على قدوة المربين وسيد الداعين إلى الله على بصيرة والمجاهدين فيه بإحسان، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد:
فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، فجعل خلقه القرآن، وكان قدوة حسنة لأصحابه وأتباعه بقوله وفعله وحاله كله، في عقيدته وعبادته وأخلاقه ومعاملاته وسلوكه كله، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). وقد كان بهذه الحالة الربانية نعم المربى ونعم القدوة، خالطهم وعايشهم وتآخى معهم وأحسن توجيههم وتربيتهم وتوظيف طاقاتهم، فحولهم من بسطاء مغمورين إلى قادة فاتحين، ولأنه المربى القدوة فقد كان حريصا عليهم وكان بهم رؤوف رحيم (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
مكانة التربية في حقل الدعوة
تعد التربية على طريق الدعوة من ألزم الأمور وأهمها، فقد كانت وستظل معلم من معالمها وثابت من ثوابتها في الإصلاح والتغيير والبناء والتكوين. فهي الطريق للفرد المسلم، هذا الفرد الذي يقوم به وعليه البيت المسلم القدوة والمجتمع المسلم المنشود والحكومة المسلمة المأمولة. وقد ركز فضيلة الإمام البنا – رحمه الله – على مبدأ التربية والتكوين بمفهوههما الشامل، فقال: (كونوا أنفسكم تتكون بكم أمتكم)، وقال: (العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا، فجاهدوا أنفسكم واحملوها على تعاليم الإسلام وأحكامه، ولا تتهاونوا معها في ذلك بأي وجه من الوجوه).
ويقول الأستاذ مصطفى مشهور- رحمه الله -: (لقد أثبتت الأحداث والأيام أنه بقدر الاهتمام بالتربية تتحقق الأصالة للحركة، واستمراريتها ونموها، ويكون التلاحم بين الأفراد ووحدة الصف….، وعكس ذلك إذا أهمل جانب التربية أو حدث فيه تقصير، يظهر الضعف والخلخلة في الصف، ويبرز الخلاف والفرقة ويتضائل التعاون ويقل الإنتاج).
مكانة المربي في ميدان التربية
يعد المربى عماد العملية التربوية، وركن من أهم أركانها الذي تقوم عليها، بل هو حجز الزاوية في بناء الدعوة كما شبهه الإمام البنا حين قال في الأسرة ونقيبها: (هي قاعدة الأساس في بناء دعوتنا، ونقيبها هو حجر الزاوية في هذا البناء). ولذلك تنعقد عليه كثير من الآمال في بناء الأجيال وتربية الرجال، وبقدر وعي المربى بعظم دوره وأثر فعله، ومدى تمثله للقدوة، ومعايشته لإخوانه، وحرصه على دعوته ورسالته، فإن العملية التربوية ستكون أكثر فاعلية وأعمق أثرا، بعد توفيق الله وعونه.
ونحن هنا نعرض لمجموعة متنوعة من الوصايا الكلية التي يجب أن يحرص عليها المربي القدوة، ليقوم بدوره التربوي بفاعلية، وهذه الوصايا تخدم ثلاث جوانب أساسية في بناء وتكوين المربي، منها ما يتعلق بذاته وبناءه النفسي والتكويني، ومنها ما يتعلق بدوره ومهاراته التربوية، وأخيرا يخدم بعضها دوره في إدارة إخوانه وأعمال الدعوة المرتبطة بمهامه كمربي.
الوصايا العشر للمربي القدوة
1- أن يهتم المربى بحاله مع ربه، فيعطى وقتا لنفسه فيرعاها ويزكيها باليقين الصادق والعبادة الصحيحة، فيهتم بكل ما يسمو بروحه ويقربه من ربه، لأن فلاحه في تربية إخوانه يقوم أساسا على نجاحه في ميدان نفسه، ومن توجيهات الإمام البنا (ميدانكم الأول أنفسكم، فإذا انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنت على سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها اولاً). ومن الغفلة المهلكة أن يظن المربى أنه سيغير من إخوانه بتربيتهم وهو غير قادر على تغيير ما بنفسه، وقد صدق القائل (لا تُحسم معارك الميدان قبل حسم معارك الوجدان)، وأول ميادين تربية النفس (التربية الإيمانية)، فهي المحرك لكل خير والدافع لكل رشد. وليعلم المربى أن التربية زاد وعطاء، وأنه لا يستطيع العطاء المستمر لإخوانه دون زاد مستمر (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
والبناء الإيماني والتعبدي للمربي يسهم في تكوين الشخصية الربانية التي يتعلق قلبها بخالقها، ولا تنخدع بزخارف الدنيا ومباهجها ومناصبها وألقابها، ويعين في ذلك الإكثار من العبادات والنوافل بخشوع وخضوع، وكثرة الذكر والدعاء، وتلاوة القرآن وتدبر آياته.
2- أن يتحلى الأخ المربي بكريم الأخلاق والسمعة الطيبة وحسن المعاملة، مقتديا في ذلك بحبيبه المصطفى، وبذلك يستطيع أن يسع إخوانه بأخلاقه ففى الحديث (إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعَهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)، ومما يلزم المربى من أخلاق أساسية، خلق الصبر وسعة الصدر والرفق والرحمة ولين الجانب والعفو والصفح (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
الإنسان أسير الإحسان، والقلوب دائمًا تقبل على المحسنين وتلتف حولهم، ولنا في أصحاب يوسف بالسجن عبرة وآية (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). وكما أننا نسع من نربي بأخلاقنا، فإننا أيضا نربيهم على هذه الأخلاق عمليا من خلال ما يرونه فينا من كريم الشمائل وجميل الخصال. ونستطيع أن نخرج من هنا بحقيقة وهي (أن أخلاق المربى:
بادة يتقرب بها إلى ربه، وطريقة يجمع بها قلوب إخوانه، وميدان لتربية إخوانه وتكوين مريديه).
3- أن يجتهد المربى في تحصيل العلوم النافعة التي يتزود بها لنفسه ويفيض بها على إخوانه، لأنه كما وصفه الإمام البنا (أستاذ بالإفادة العلمية)، وصفة العلم التى نقصدها لا مجرد حفظ واستظهار مجموعة من الكتب فحسب – مع أهمية ذلك – ولكن يتعدى الأمر ذلك بأن يكون له في كل مجال طلب وفى كل علم قدم، ويأخذ من كل باب بقدر أهميته في مجال عمله التربوي، والضابط في ذلك (تعلق ما يحصل بما يعمل). والافادة العلمية هنا لا تتوقف عند الفوائد النظرية، ولكن تتعداها إلى الخبرات والتجارب العملية التي تمثل ترجمة حقيقية للمعارف والعلوم.
ومن واجبات المربى نحو نفسه في هذا الباب هو البناء الفكري المرتبط بميدان الدعوة والتربية، كفهمه لخصائص الدعوة ومنهجها وقدرا من تاريخها، مع استيعابه لثوابت الحركة ومتغيراتها وفقه الدعوة، ويعين في ذلك، القراءة العميقة لسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ورسائل الإمام البنا ومذكراته، والوثائق الرسمية الصادرة عن الجماعة، وكتابات من فقه الدعوة لفضيلة الأستاذ مصطفى مشهور وغيرها كثير من الكتب والدراسات المؤصلة للفكرة والضابطة للحركة.
4- أن يبذل المربى جهدًا في تطوير ذاته وقدراته، التى تؤهله ليمارس مهامه بفاعلية، وترفع من كفاءته في العملية التربوية، ومن ذلك اكتساب بعض المهارات الأساسية اللازمة مثل مهارات (التخطيط التربوي – حل المشكلات – العرض والإلقاء – الحوار والمناقشة – المتابعة والتقويم التربوي – توظيف الطاقات – غرس القيم – تعديل السلوك …الخ). ويلزمه أيضا استيعابه لمنهج المرحلة التي يربى فيها، وكيفية السير بالمنهج لتحقيق أهدافه، وكيفية توظيف وسائل التربية المختلفة لخدمة مفردات المنهج وأهدافه. ومن مكملات البناء الذاتي للمربي أن يحرص على التعرف على أنماط الشخصية وكيفية التعامل مع كل نمط، ثم عليه أن يستوعب مجالات وميادين العمل الدعوي المتاحة، ليستطيع توجيه إخوانه فيها كل حسب طاقاته وقدراته.
5- أن يحرص المربى على تحقيق وتعميق المعايشة التربوية مع وبين إخوانه، سواء كانت معايشة فردية أو جماعية. والمعايشة بصورتيها (الفردية – الجماعية) تسهم كثيرا في تحقيق أركان الأسرة من تعارف وتفاهم وتكافل، وتعزز من روابط القلوب ووحدة المشاعر بين أعضاء الأسرة، وتهيئ المعايشة البيئة الداعمة للنمو التربوي، لأنها تسمح للمربى أن يتعرف عن قرب على إخوانه، سواء على ما لديهم من قدرات ومواهب وطاقات فيوجهها ويحسن توظيفها، أو على مالديهم من مشكلات وصعوبات فيسعى معهم لحلها وتجاوزها.
لكي تحقق المعايشة مغزاها من الانفتاح المنضبط والمخالطة التربوية الهادفة، لابد أن تتنوع وسائلها ومناشطها وأساليبها، وحينئذ سيرى المربى إخوانه في بيئات وأجواء تربوية متنوعة، وأحوال مختلفة، عندها يستطيع التربية الفاعلة والتوجيه القائم على المعايشة العملية لواقع الأفراد. نخلص منذ ذلك إلى حقيقة مفادها (أن المعايشة العميقة أساس التربية الصحيحة).
6- أن يركز في تربيته لإخوانه على الجانب الإيماني التعبدي، من خلال تزكية نفوسهم بالطاعات والقربات، وتحقيق العبودية لله تبارك وتعالى، مع تربيتهم على الإخلاص لله وحسن القصد في القول والعمل، دون تطلع إلى مغنم أو لقب أو جاه أو تقدم أو تأخر، ثم ينطلق من هذه الحالة الإيمانية والعبادية عند إخوانه إلى تزكية روح الجهاد والتضحية بالنفس والمال والوقت والجهد في سبيل الله، وأن يحثهم دائما على عقد الصفقة الرابحة مع الله (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)، ثم يعمق في نفوسهم روح التجرد لدعوتهم وفكرتهم – الإسلامية الصميمة – دون غيرها من الأفكار. ولأن التضحية والجهاد والتجرد يتطلبان استشعار روح الجندية، فكان لزاما عليه أن يربى إخوانه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، في غير معصية، ويعودهم على الدقة في أداء ما يكلفون به من أعمال وواجبات.
7- أن يهتم المربى كثيرًا بتزكية معاني الأخوة والحب في الله بين إخوانه عمليا لا نظريا، لأن في الأخوة سر القوة كما ورد عن الإمام البنا، وأن يقوي في نفوسهم مبدأ الثقة في طريق دعوتهم وما يرتبط به من عناصر أساسية كالثقة في القيادة، والثقة في المنهج، والثقة في إخوانه على طريق الدعوة، والثقة في نصر الله لهذا الدين. وأن يغرس فيهم دائما الأمل في تأييد الله ونصره لعباده الصالحين. وأن يبصرهم دائما بطبيعة الطريق مع التأكيد على ضرورة الثبات رغم المحن والعقبات والفتن والابتلاءات، في العسر واليسر (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). ومن واجبه أن يبصر إخوانه بالانحرافات الفكرية والحركية التي ينزلق فيها البعض وتبعدهم عن الطريق، حتى يتحرزوا منها، خاصة وأنها تبدأ بسيطة ثم تزداد مع الزمن.
8- أن يتعرف المربي على قدرات وطاقات إخوانه، ويبذل الجهد في توظيفها لخدمة الدعوة، ودفعهم نحو الحركة والعمل، وذلك من خلال وضع البرامج العملية لذلك، ولا يقبل المربي القدوة أن يكون من بين إخوانه من لا يحمل هم الدعوة ويتحرك بها، ويعين في ذلك كثرة الاحتكاك والمخالطة والمعايشة، ومعرفته بميادين الدعوة ومجالاتها الممكنة وهى كثيرة.
أن يدربهم عمليا ويتدرج معهم في ممارسة الدعوة والحركة بها، فينقل إليهم تجاربه أو تجارب غيره من الإخوان. ومن ميادين الحركة بالدعوة أن يوجههم للقيام بأدوار دعوية وتربوية نحو بيوتهم لتحقيق صفات البيت المسلم القدوة، وأيضا توجيههم للحركة والعمل في محيط الجيران والأهل والأرحام، كذلك الحركة بالدعوة في محيط الدراسة أو محيط العمل، أو يدفعهم للعمل بأحد مجالات الدعوة التي تناسب قدراتهم وظروفهم، (كالأشبال أو الطلاب أو نشر الدعوة أو البر والخدمات الاجتماعية… أو غيرها) من أقسام ولجان العمل في الجماعة.
9- أن يهيئ المربى لإخوانه البيئات التربوية الداعمة لنموهم التربوي وفق منهج المرحلة، فيعدد من الأنشطة المصاحبة للأسرة، ولا يقصر علاقته بهم في لقاء الأسرة فقط، ويحرص على تفاعلهم مع محاضن التربية المجمعة، كالدورات والندوات والمخيمات والكتائب وغيرها من البرامج الجماعية. ومع تهيئة البيئة للنمو يجب عليه متابعة تقدم إخوانه، ورصد نموهم التربوي وتقويم حالتهم وفق منهج المرحلة، إعمالا لمبدأ (التربية بالأهداف)، فنراه يعزز المتقدم منهم ويدفعه، ويشجع المتعثر منهم ويأخذ بيده ويعينه في تجاوز عثرته. ومع تهيئة البيئة ومتابعة النمو التربوي يجب على المربى أن يجمع في تربيته لإخوانه بين أسلوبي التربية الفردية والتربية الجماعية، مع مراعاة مبدأ (الفروق الفردية) في التربية، ولا يغفل أن ينمي الذاتية في نفوس إخوانه باعتبارها أحد صور التربية الفردية، من خلال تربيتهم على الذاتية العبادية والاجتماعية والدعوية وغيرها من صور الذاتية، طالما في إطار الانضباط الحركي والتنظيمي.
10- أن يجمع المربى قلوب إخوانه حول الدعوة، والثقة في طريقها (قيادة – منهج – أفراد)، وأن يربيهم على الانتماء الصادق للدعوة (عاطفيًّا- فكريًّا- تنظيميًّا حركيًّا)، وأن يشعرهم دائما أنهما أصحاب دعوة وليسوا أجراء فيها وبالتالي، وجب عليهم أن يفكروا لها وينصحوا لها ويحملوا همها. ومن لوازم ذلك أن يشجعهم على المشاركة بآرائهم وأفكارهم لخدمة العمل وتطويره، وأن يعمق عندهم مبدأ (الدين النصيحة) وفق آدابها وضوابطها، وأن يربيهم على ممارسة الشورى علميًّا وعمليًّا وفق آدابها وآلياتها.
نسأل الله سبحانه أن ينصر دعوتنا، وينشر فكرتنا، ويبارك أخوتنا، وأن يوفق قادتنا ويجمع على الحق كلمتنا. كما ندعوه سبحانه أن يخلص نياتنا ويتقبل أعمالنا، وأن يجعلها في ميزان الحسنات (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.