يقول محمد إقبال: ( كانت الثقافات السائدة قبل الإسلام تعتبر الواقع موضوعا خسيسا غير كفيل بأن يوصل إلى الحق وإلى الخير ، فالثقافة اليونانية تعتبر رأس الفضائل التعقل المجرد ، والثقافة الهندية والفارسية تعتبر أن المجاهدة الروحية ( الروحنة ) الطريق الوحيد إلى الحق ، وفي ذلك نفي للواقع المحسوس وإسقاط له )(4) فكان التفكير يعيش مع المثال والخيال وحظوظ النفس ,ويتهرب من الواقع على طريقة صوفيات شرق آسيا (البوذية والطاوية والهندوسية وغيرها)، ويترك العمل في ذلك الواقع للطبقات المستعبدة في المجتمع .
فلما جاء الإسلام علم العقل المسلم احترام حقائق هذا الواقع “عالم الشهادة” وألزمه به ، وجعله مكان خلافته وتكليفه ، قال تعالى : ( إن في خلق السماوات و الأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )(5) .
وقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بنعمة الحواس , التي تربطه بهذا الواقع ، و أحال حواسه وعقله إلى اكتشاف السماوات والأرض واكتشاف السنن والقوانين التي تحكمها ، ثم أمره بالاستفادة من اكتشاف هذه السنن في بناء حياته وحضارته على الأرض ، وعلمه أن هذه السنن وهذه السماوات وهذه الأرض تشير إلى عظمة الخالق ، وتعلمه الإيمان ، وان هذه السنن تطيع خالقها ، ولا تجامل مؤمنا ولا كافرا ، وطالبه أن يتعلم من هذه السنن ، فيأخذ بالأسباب التي تحكمها ، ليستفيد من ذلك في تيسير حياته الدنيا على الأرض.
وعلمه أن الأخذ بالأسباب أمر رباني ، وأن تركها كفر ، وأن التوكل عليها من دون الله شرك ، ودعاه إلى التقرب من خالق الأسباب ( بالدعاء ) حتى يعينه على امتلاك ناصيتها.
وبذلك أدرك العقل المسلم أن ترك الأخذ بالأسباب , هو تهرب من العمل الصالح ، وان الدعوة إلى الزهد في الدنيا تهدف إلى التحكم بها ، والسيطرة عليها ، حتى لا تلهينا عن مقصد وجودنا وخلافتنا على الأرض ، وليس إعراضاً عنها أو إهمالاً لشأنها ، لأننا بذلك نهمل مقصد وجودنا ، فالدنيا مزرعة الآخرة ومن أهمل مزرعته أهمل آخرته .
وما عرف العقل المسلم ترك الآخذ بالأسباب في فكره إلا عندما تسرب إليه الفكر الصوفي الشرقي(6) من الثقافة ( الهند فارسية ) حيث لعب دورا تخريبيا تجاه العقل المسلم ، تحت التذرع بان قضاء الله قد تم ،ولا ينفع معه عمل ولا أخذ بالأسباب ، وهذا هو الكذب على الله ، والفسق عن دينه ، يقول أحد شعراء الصوفية:
جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون
جنون منك ان تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين
وهكذا ولد العقل المسلم مخالفا للحضارات المجاورة ، مستقلا عنها، مفارقا لها ، متميزا عليها، في: مرجعيته ،وعقيدته، وفهمه، وغاياته، ووسائله، ومستخرجاته الحضارية ، في حضارة هي حضارة الحكمة ( ويعلمكم الكتاب والحكمة…)(7) وقد شهد الله لهذه الأمة بالتميز في قوله سبحانه وتعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )(8) وظهر هذا التميز في مختبر السلوك والتعامل مع الآخرين ، من أهل الكفر من خلال نظرية ( التعارف ومعارضها ) فهو لا يؤمن بالتذويب القسري للآخرين من خلال ( القوة والقسر والمكر و التخطيط ) وإنما يستعمل معرض التعارف والتعاون بين حضارات البشر ، ويترك لعقولهم اكتشاف ما يتميز به الإسلام على بضاعتهم القائمة على العقل الفلسفي المتكل على نفسه .
وعند ذلك تتعرف الأمم على خصائص هذا الدين وتميزه ، من خلال معارض هذا التعارف في ( السفر، والحرب ،والسلم، والتزاوج ،والهجرة ،والتجارة، والحوار ، والجوار، والمعاهدة، والشدة، والرخاء ،والسلوك، والموقف، والفكر، والأدب ،والفن ….) وغيرها . قال تعالى ( لا إكراه في الدين )(9) وقوله تعالى ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )(10) لأن الإيمان يقوم على الاختيار الحر بعيدا عن القهر ، وإذعانا للحق ، وهذا هو منهج الأنبياء وجوهر رسالتهم.
ويشكل عالم الشهادة النصف الاول من الواقعية الاسلامية ,اما النصف الثاني للواقعية الاسلامية فهو (عالم الغيب )الذي يتلقى منه المسلم علوم الوحي عن طريق الأنبياء حيث يتعلم منهم المنهج الرباني الذي يبصرهم بإدارة شؤون حياتهم في عالم الشهادة, بما يرضي الله عنهم, ويوصلهم الى مستقر رحمته في الآخرة.
* عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية