تحل اليوم الذكرى الثانية والسبعون للنكبة الفلسطينية، التأريخ الرسمي، المتعارف عليه، للعمل الصهيوني الحثيث على إلغاء فلسطين لصالح كيانه، إسرائيل، ومحاولات تحويل الشعب الفلسطيني إلى تجمّعات من اللاجئين، سواء خارج أرضه أو عليها، وسواء أكانوا حملة للجنسية الإسرائيلية، أم مقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة. من لا يزالون مقيمين في أرضهم التاريخية يمثلون قصة الصمود، ومن شُرّدوا خارجها يجسدون حلم العودة، ويتشارك الشعب كله بعد ذلك في تكثيف الهوية الوطنية الفلسطينية الجَمَعِيَّةِ، والإيمان بحتمية التحرير.
لا تهدف السطور التالية إلى مناقشة النكبة بوصفها حدثاً تاريخياً، ولا حتى بوصفها حدثاً قائماً ومستمراً، وهي كذلك، بقدر ما تهدف إلى التركيز على جزئية ضيقة ضمن السياق الحالي للقضية. شهد الأربعاء الماضي حدثين رئيسين: الأول زيارة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، تل أبيب، ناقش خلالها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ومسؤولين آخرين، عدداً من الملفات، أهمها القرار الإسرائيلي المرتقب بضمّ أجزاء واسعة من الضفة الغربية، بما في ذلك غور الأردن والمستوطنات الصهيونية. الثاني، خطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بمناسبة الذكرى الثانية والسبعين للنكبة، الذي حذّر فيه من تداعيات قرار الضم على مستقبل عملية التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية. وتبع الحدثين حدثٌ ثالث، أداء حكومة الوحدة الإسرائيلية اليمين الدستورية، المفترض أن يكون قد جرى يوم غد الخميس، إذ تُكْتَبُ هذه السطور يوم الأربعاء.
المشترك بين الأحداث الثلاثة، القرار المرتقب لحكومة الوحدة الجديدة بين زعيم حزب الليكود، نتنياهو، وزعيم حزب أبيض أزرق، بيني غانتس، إطلاق إجراءات الضمّ في الضفة الغربية، في يوليو/ تموز المقبل، التي لا تعارضها إدارة الرئيس، دونالد ترامب، بل هي التي مهّدت لها، سواء عبر اعترافها، في ديسمبر/ كانون الثاني 2017، بالقدس عاصمة “موحّدة وأبدية” لإسرائيل، أو عبر تخليها، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، عن الرأي القانوني، أن بناء إسرائيل “مستوطنات مدنية” في الضفة الغربية “يتعارض مع القانون الدولي”، وهو الموقف الذي كانت تتبنّاه الولايات المتحدة منذ عام 1978. تواطؤ إدارة ترامب في هذا السياق وجد تكثيفه، مطلع هذا العام، في ما تعرف إعلامياً بـ”صفقة القرن”، ورسمياً بـ”السلام من أجل الازدهار: رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي”، التي لا تخفي انحيازها المطلق إلى إسرائيل على حساب الفلسطينيين، وتسعى إلى فرض تنازلاتٍ جوهريةٍ عليهم في قضايا الصراع المركزية، كالسيادة والأرض والحدود والقدس واللاجئين والأمن والمياه والمستوطنات وطبيعة التواصل الجغرافي للدولة الفلسطينية العتيدة المفترضة.
ما سبق يعرفه الجميع، بل إن ما سيلي يعرفه الفلسطينيون جميعاً، كذلك، غير أن بعضنا يختار التغافل، أو حتى التواطؤ. كلنا يعرف أن القيادة الرسمية الفلسطينية، مسنودةً بموقف شعبي صلب ومتماسك، رفضت محاولات إدارة ترامب وضغوطها، وضغوط بعض حلفائها من العرب، للاستسلام أمام الصفقة والقبول بها، إلا أن هذه القيادة التي هدّدت بإعادة النظر في وجود السلطة الفلسطينية نفسها، أو الانسحاب من الاتفاقات المشتركة مع إسرائيل، بما في ذلك سحب الاعتراف بالدولة العبرية، وصولاً إلى تجميد التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لم تفعل أيّاً من ذلك.
في خطابه يوم الأربعاء الماضي، أعاد عباس تأكيد المعزوفة نفسها: “متمسكون بثوابتنا التي أقرّها المجلس الوطني الفلسطيني وقرارات الشرعية الدولية. سنعيد النظر في مواقفنا من كل الاتفاقات والتفاهمات، سواء مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، أو مع الولايات المتحدة الأميركية نفسها. وسوف نكون في حلّ من كل تلك الاتفاقات والتفاهمات، إذا أعلنت الحكومة الإسرائيلية ضمَّ أي جزء من أراضينا المحتلة”. هل ثمّة من يصدّق أن عباس والسلطة الفلسطينية سينفذان أيّاً من ذلك، وهم من أصدروا هذه التهديدات مراراً وتكراراً ولم ينفذوها؟ هناك عشرات القرارات التي اتخذها المجلسان، الوطني والمركزي الفلسطينيان، خصوصاً في ما يتعلق بالتنسيق الأمني ولم ينفذ منها شيء. ما الذي سيتغير هذه المرّة؟ قد يقول بعضهم إن قرار ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية أمر آخر. ألم يقولوا ذلك عند الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل؟ وعند نقل السفارة إليها عام 2018؟ وعند قطع التمويل الأميركي، في العام نفسه، عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، لإرغامها على إعادة تعريف من هو اللاجئ الفلسطيني، واستثناء غالبيتهم العظمى منه؟ والأمر نفسه قاله هؤلاء عند إعلان “صفقة القرن” مطلع هذا العام.
الأدهى أن خصومنا أنفسهم يعلمون أن التهديد والوعيد الرسمي الفلسطيني لا يعني شيئاً. في محاضرة له أمام معهد الشرق الأوسط في واشنطن، يوم الثلاثاء الماضي، عبر تطبيق “زووم”، أعاد رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، محمد اشتية، تأكيد التهديدات نفسها إذا أقدمت إسرائيل على تفعيل قرار الضم. وجهتُ إليه سؤالاً مكتوباً أتساءل فيه عن السبب الذي يدفعنا إلى تصديق تهديدات السلطة هذه المرّة، ولكن لم يكن هناك وقت لطرحه، إلا أن المفاجأة المهينة كانت في تعليق مباشر، في المحاضرة نفسها، صدر عن المبعوث الأميركي الأسبق للشرق الأوسط، الذي عمل سفيراً في تل أبيب، الصهيوني المعروف، مارتن إنديك. لم يتردّد هذا في تذكير اشتية بأن السلطة الفلسطينية تعاني من “مشكلة مصداقية”، كما وصفها، وقال: سمعنا تهديداتكم كثيراً عن حل السلطة الفلسطينية والانسحاب من الاتفاقات الأمنية مع إسرائيل، ولم يحصل شيء من ذلك. ولأنه افترض أن هذه مجرّد معزوفة قديمة – جديدة، فإنه كالذئب في لبوس الحَمَلِ، نصح القيادة الرسمية الفلسطينية بتجريب مقاربة جديدة: “تكلموا مع غانتس”، وزير الدفاع في الحكومة الجديدة، ورئيس هيئة أركان سابق للجيش الإسرائيلي، “وتكلموا مع غابي أشكنازي”، وزير الخارجية في الحكومة الجديدة، ورئيس أركان سابق كذلك. أي إن كليهما مجرما حرب، وهما دخلا حكومة الوحدة مؤيدين قرار الضم، بل و”صفقة القرن” التي يصفها عباس، محقاً، بـ”صفعة القرن”، إذ إن ترامب كان قد استشار غانتس بصددها وحصل على دعمه لها في واشنطن، قبل يوم واحد من إعلانها!
باختصار، سبق القول إن النكبة ليست حدثاً تاريخياً فحسب، بقدر ما أنه حدثٌ قائم ومستمر، بل ويتطوّر شكلاً ومضموناً وعنفاً. وإذا كنا نتفق على الجريمة الاستعمارية الإمبريالية الغربية بحق الشعب الفلسطيني، وإذا كنا موحّدين في تحديد موقفنا من المجرم الصهيوني، وإذا كنا نُقِرِّ بالتواطؤ، أو التخاذل العربي، فإنه قد آن الأوان لأن نتحدّث عن دور جهات فلسطينية، وفي مقدمها القيادة الرسمية، في إطالة أمد النكبة الفلسطينية وتعميقها. هذه قيادة هرمت وشاخت وفشلت، ولا تملك خياراتٍ جديدةً للتعامل مع جائحة النكبة التي يرزح تحتها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعة عقود. خيار “السلام” الذي انتهجته، أكثر من ثلاثة عقود، ثبت أنه عقيم، وهي ترفض اليوم، محقة، المضيَّ فيه أبعد من ذلك. وفي الوقت نفسه، ترفض النظر في خيارات أخرى، أو العودة إلى شعبها وقواه وكفاءاته المنتشرة في طول البسيطة وعرضها، في مسعى إلى اجتراح مسار جديد يكون محل توافق، على الأقل في الحدود الدنيا.
نعم، مثلت النكبة، وما زالت، جائحةً كارثيةً للشعب الفلسطيني. وللأسف، تمثل القيادة الرسمية بعداً آخر لهذه الجائحة. إننا، نحن الفلسطينيين، في وضع مشابه، تقريباً، للولايات المتحدة التي تواجه راهناً جائحة فيروس كورونا تحت قيادة جائحةٍ أخرى اسمها ترامب. هل بقي بعد ذلك من يشكّك في الدور المحوري الذي تلعبه قيادة ضعيفة أو فاشلة في إجهاض قدرات الشعوب والدول، حتى ولو كانت قوى عظمى؟ المفترض أن تجتمع القيادة الرسمية الفلسطينية غداً السبت في رام الله لأخذ قرارات حاسمة كما قال عباس واشتية. شخصياً، أشك في صدور أي قرار ذي معنى، ولكن هذه من المواقف التي يتمنّى المرء أن يكون مخطئاً فيها.