المبادرة لفظٌ جميل، ومعنى عظيم توحي بالجديةَّ، وتشعر بالعزيمة، وتنبئ عن علوّ همة تدعو إلى الإسهام في مجالات الخير كلها.
معنى المبادرة:
والمبادرة في اللغة هي المسارعة إلى الشيء قال في لسان العرب: “المسارعة إلى الشيء المبادرة إليه” (لسان العرب 8/151).
وقال بعض أهل العلم: المبادرة التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة، وضدها الإبطاء وهو مذموم، والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة، وضدها الأناة وهي محمودة.
وفي الشرع أكثر ما تستعمل في المسارعة إلى الخيرات وقد وردت بهذا المعنى كثيرا في القرآن الكريم والسنة المطهرة مدحا لها وحثا عليها فمن ذلك قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)(الحديد:21)، وقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133)، وقوله سبحانه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة: من الآية148)
وهي صفة النبيين والمرسلين كما جاء وصفهم في سورة الأنبياء: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)(الأنبياء: من الآية90)
كما أنها صفة عباد الله المؤمنين، بها وصفهم في السورة المسماة باسمهم أيضا: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون57:61)
وفي السنة أيضا جاء الحض على هذا المعنى الطيب فيما رواه مسلم عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: [بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم . يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا . أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا . يبيع دينه بعرض من الدنيا]، وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا إلى فقر منس، أو غنى مطغ، أو مرض مفسد، أو هرم مفند، أو موت مجهز، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر] قال الترمذي حسن غريب وضعفه الألباني.
في صحيح أبي داود والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري: [أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرا، فقال: تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل].
وقال علي بن سهل: المبادرة إلى الطاعات من علامات
التوفيق.
وكان الحسن يقول في موعظته: «المبادرة عباد الله، المبادرة فإنما هي الأنفاس لو قد
حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تقربون بها إلى الله عز وجل، رحم الله امرأ نظر
لنفسه وبكى على ذنوبه»، ثم يقرأ هذه الآية: (إنما نعد لهم عدا)، ثم يبكي ويقول: «
آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك»
المبادرة والإيجابية
وهناك معنى آخر للمبادرة
ثبت في الشرع وهو معنى جميل وقد يكون داخلا على العموم في المعنى الإجمالي ولكن
ننبه عليه هنا لأهميته ألا وهو معنى “الإيجابية” بمعنى أن يكون للإنسان
دور في الحياة ودور في خدمة الدين وخدمة البلاد والعباد؛ فإن الإسلام لا يعترف
بالإنسان الخامل الذي لا قيمة له ولا عمل ولا أثر..
وقد دل على هذا المعنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: الإيمان بالله. قلت: يا رسول الله إن مع الإيمان عملا. قال يرضخ مما رزقه الله. قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ به؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. قال قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان عييا لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؟ قال: يصنع لأخرق. قلت: أرأيت إن كان أخرق لا يستطيع أن يصنع شيئا؟ قال: يعين مغلوبا. قلت: أرأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مغلوبا؟ قال: ما تريد أن تترك في صاحبك من خير!! يمسك عن أذى الناس. فقلت: يارسول الله إذا فعل ذلك دخل الجنة؟ قال: ما من مسلم يفعل خصلة من هؤلاء إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة. (الترغيب والترهيب “رجاله ثقات”، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني)
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يكون إيجابيا فعالا، لا كسولا خاملا، وجعل الإيجابية من آثار الإيمان ومن الأعمال التي تؤدي بصاحبها إلى الجنة، وما زال أبو ذر يلتمس المخارج للناس والبدائل بقوله: “أرأيت إن كان لا يستطيع كذا”.. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم له ما تريد أن تترك في صاحبك من خير، وهذا يدل على أن العمل الإيجابي خير وأن انعدامه عند العبد كانعدام الخير فيه.. ومثل هذا لا يملك إلا أن يكف شره عن الناس.
ولقد شهد تاريخُنا المجيد ألواناً من المبادرات، ودلل أسلافنا على أنهم أهلُ مبادرة وعمل وسعي وجد، وأن هذه هي حقيقة الإسلام.
فأبو بكر في أول يوم من أسلامه خرج يدعو إلى الله تعالى مباشرة حتى عاد ومعه أربعة من العشرة المبشرين بالجنة. وكل حياته ومواقفه ذات أثر في الدين.
وعمر بمجرد إسلامه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: علام نتخفى؟ ويطالب بأن يخرج لملاقاة المشركين وقتالهم حتى يحكم الله بين الفريقين.
وعثمان صاحب الصولات والجولات في النفقة على الدين وخدمة الرسول الأمين وجميع المسلمين: قال صلى الله عليه وسلم من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتراها عثمان، وقال صلى الله عليه وسلم: من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟ فاشتراها عثمان، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لتجهيز جيش العسرة وكان الناس في ضيق وشدة وقله فجهزه عثمان. وفي كل مرة يقول عليه الصلاة والسلام: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم.
الإيجابية والدعوة
الإيجابية هي وقود الدعوة ولولاها ما تحرك أحد لدعوة أحد، ولما بلغ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها ولعاشت أمم في التيه حياتها، ولكان أناس حطبا لجهنم لولا أن أنقذهم الله برجل ذي همة دعاهم إلى الإيمان..
والعجب أن يكون مثل هذا الخلق في الحيوان فلقد ضربت نملة سليمان مثلا للإيجابية وأثرها في استنقاذ أمة بأكملها من الهلاك، كان يمكن لهذه النملة أن تذهب وحدها بعيدا فتنقذ نفسها ولكنها آثرت أن يكون لها دور في إنقاذ أمتها من النمل فنبهتهم واستنقذتهم.
وكذا هدهد سليمان فكان له الفضل بتوفيق الله له في استنقاذ مملكة سبإ كلها من الشرك والكفر والنار إلى الإيمان والتوحيد والجنة.. وهذه ثمرة للإيجابية.
وكان للإيجابية أيضا دورها في نجاة أقوام ودخولهم في الإسلام على يد رجل واحد آثر أن يكون له دور وودع الخمول والكسل كما حدث مع الطفيل بن عمرو الدوسي الذي آمنت دوس على يديه ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه.
ومن قرأ غزوة الخندق أو الأحزاب علم دور نعيم بن مسعود الثقفي في تخذيل الكافرين وإضرام نار الوقيعة بين المشركين واليهود مما كان له أكبر الأثر في إنهاء هذا الحصار وانتصار المسلين.. هذا مع أنه لم يكن أسلم إلا منذ سويعات قليلة.
ومثله في الإيجابية ثمامة بن أثال لما أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد.. والله ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض إلي من وجهك.. و قد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، ووالله ما كان دين أبغض إلي من دينك؛ فأصبح دينك أحب الدين كله إلي.. ووالله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح أحب البلاد كلها إلي.. ثم أردف قائلا: لقد كنت أصبت في أصحابك دما فما الذي توجبه علي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تثريب عليك ياثمامة فإن الإسلام يجب ما قبله.. و بشره بالخير الذي كتبه الله له بإسلامه، فانبسطت أسارير ثمامة وقال: والله لأصيبن من المشركين أضعاف ما أصبت من أصحابك، ولأضعن نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك.. ثم قال: يارسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى أن أفعل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: امض لأداء عمرتك ولكن على شرعة الله ورسوله، وعلمه ما يقوم به من المناسك. ثم خرج معتمرا، فلما قدم مكة، قالوا: أصبوت يا ثمام؟ فقال لا، ولكني اتبعت خير الدين دين محمد.. ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل (أي إرسال الطعام إليهم).
وخاتمة المقال في قصة إسلام سعد بن معاذ رضي الله عنه حين سمع من مصعب بن عمير وكتب الله له الإسلام : “فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير. فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة. قال فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة.
إنها روح الإسلام وحقيقة الدين التي تحمل صاحبها على السعي الحثيث إلى العمل والإحسان ، وطلب المعالي بعد رضا الله تعالى عنه.
ولم تكن المبادرات وصفة الإيجابية يوما قصراً على القادة بل شملت القاعدة، ولم تكن خاصةً بالكبار بل شارك فيها الشباب، ولم يتخل الضعفاء المعذورون بل شاركوا الأقوياء.. و ولم تكن قصراً على الرجال بل كان للمرأة نصيبُها من المبادرة، وإن مجتمعاً يُشارك جميع أفراده بالمبادرات الخيرة لمجتمعٌ خليق بالتقدير والبقاء..