هل الصدمة التي أحدثتها جائحة كورونا وما صاحبها، من سياسات وإجراءات، كانت كافية لتشكيل ثقافة جديدة، ولتكييف الإنسان نفسه وأوضاعه بما يتواءم مع الضوابط والتعليمات التي فرضتها الدول والسلطات؟ وهل ما كان مرفوضاً أو ممجوجاً أصبح مقبولاً ومبرراً، ويتم تنفيذه بتلقائية؟ باختصار، هل حدث ما يمكن أن نسميه “كي الوعي”؟!
يبدو أن جائحة كورونا قد أحدثت هزة كبيرة لمنظومة الحياة الإنسانية، ويرى كثيرون أن هذه الجائحة أنشأت حداً تاريخياً فاصلاً يُدشِّن لمرحلة جديدة مختلفة من السلوك والعلاقات على المستوى الشخصي والمجتمعي المحلي والدولي. ولكن هل سيتم استغلال عالم ما بعد كورونا لمصلحة قوى كبرى أو أنظمة أو أصحاب نفوذ؟
بعيداً عن النقاش عن “نظرية المؤامرة”، فإن “كي الوعي” الذي حصل، بالشكل الذي جعل الإنسان قابلاً لتبني ثقافات جديدة أو الخضوع لإجراءات تقيد حريته وإرادته، قد فتح المجال لعدد من الفرص والمخاطر، تتضمن جوانب إيجابية وسلبية محتملة. كثيراً ما يكون السلوك الإنساني في حالة “الاختلال والانتقال” التي تصاحب هكذا أحداث مفصلية سلوكاً “لا واعياً” وتلقائياً ومستجيباً للتعليمات؛ حيث يصبح الخوف والبحث عن الأمن هو الدافع الرئيسي للسلوك. وبالتالي تفقد الكثير من القوانين والأنظمة والأعراف وحتى الالتزامات الدينية والأعراف الاجتماعية قوتها ومرجعيتها، وتنحسر سلطاتها وتأثيرها في الحياة العامة مقابل “تغوّل” السلطة التنفيذية أو النظام السياسي. هذه الحالة “الرخوة” التي تبرر للسلطات المسؤولة انتزاع إرادة المواطن وحريته وانتقاص حقوقه، تحت ذريعة الإجراءات المؤقتة، يمكن أن تتحول بشكل أو بآخر أو بدرجة ما إلى حالة “كي للوعي” تجعل الإنسان قابلاً للتماهي معها كأعباء وقيود دائمة “مقبولة”.
وما يصعب لدى الكثيرين ملاحظته أن الإجراءات تكون ثقيلة الوطأة في البداية، ولكن عندما يتم تخفيفها لا يتم تخفيفها بالكامل، وإنما يتم الإبقاء على عدد منها بحيث تصبح جزءاً من الثقافة والسلوك العادي للإنسان. والخطير في الموضوع ليس التغيّر بحد ذاته، وإنما الاستجابة اللا واعية للسلوكيات والإجراءات الجديدة. وليس بالضرورة أن تكون الإجراءات كلها ضارة أو سلبية، فقد يكون بعضها نافعاً وإيجابياً.
إيجابيات جديدة:
ثمة إيجابيات عكستها جائحة كورونا على سلوكنا الإنساني، فالحجر المنزلي أعطى فرصاً أفضل لاجتماع الأسرة وتقوية علاقاتها وتحسين العلاقات الزوجية وتربية الأبناء وتعليمهم، وأعطى فرصاً أفضل لتخفيف النفقات غير الضرورية على مظاهر الترف الاجتماعي والولائم والحفلات والسهرات والتسوق والسفر.
وأحدث المكوث في المنازل نقلة نوعية في وسائل الاتصال الالكتروني، وفي العمل والدراسة عن بُعد (Online)، وفي عقد الاجتماعات وإقامة الندوات والمحاضرات. كما حدث تخفف من استخدام وسائل المواصلات وخفض منسوب التلوث البيئي.
وصدمة كورونا وجّهت أنظار الحكومات إلى أهمية القطاع الصحي، وإلى صرف ميزانيات أكبر لصالحه، ولصالح الأبحاث والدراسات والاختبارات لتطوير الأدوية واللقاحات.
كما أحدثت جائحة كورونا أدبيات وثقافة اجتماعية جديدة متعلقة بالنظافة والطهارة والتعقيم، ونشر الثقافة الصحية بين أفراد الأسرة صغاراً وكباراً، وفي المدارس والمعامل والمؤسسات الحكومية والخاصة؛ وتجاوز العواطف والسلوك الاجتماعي المعتاد عندما يتعلق الأمر بالأولويات الصحية.
ولعل أحد السيناريوهات الإيجابية المحتملة لجائحة كورونا على القوى الكبرى والمنظومة الدولية، هو احتمال أن تضطر بعض القوى الكبرى للانكفاء على نفسها للملمة جراحاتها واستعادة عافيتها ومعالجة أوضاعها الداخلية، وبالتالي فقد يخفف ذلك من عدوانيتها ومن صرف الميزانيات الكبيرة لفرض إرادتها على الدول والشعوب المستضعفة. وهو ما ينطبق على بعض الأنظمة في منطقتنا وبيئتنا الإقليمية، التي ما فتئت تطارد حركات المقاومة و”الإسلام السياسي” وتقمع الإرادة الحرة لشعوب المنطقة.
مخاطر وسلبيات محتملة:
إحدى المخاطر المحتملة أن يكون “كي الوعي” للقوى الكبرى والإقليمية سلبياً، بحيث يدفعها التأثر بالخسائر الكبيرة إلى المزيد من “التغول” على الدول والشعوب الضعيفة، والسعي للسيطرة على ثرواتها ولو بشكل فظٍّ وفجٍّ. وربما استدل بعض الباحثين على ذلك بمؤشر قيام دول متقدمة (تظهر حرصاً على القوانين الدولية والسلوك الحضاري) بقرصنة كمامات الوجه، وشرائح وأدوات اختبار الإصابة بالفيروس.
ومن المخاطر المحتملة أن يُحدِث “كي الوعي” قبولاً أكبر لدى الناس بالاستجابة التلقائية لتعليمات السلطات الحاكمة نتيجة استخدام عنصر “الخوف”، وتجاوز المؤسسات الدستورية والقانونية، والتصرف وتقدير الأمور دون رقابة حقيقية فعالة، وبالتالي توسيع دائرة الخلل (الواسعة أصلاً في بلادنا) بين السلطات التنفيذية والسلطات التشريعية، وكذلك بين صلاحيات الدولة وحقوق الإنسان.
ويرتبط بما سبق أن يصبح نزول الجيش إلى الشوارع وقيامه بإدارة الأمور ورعاية “المصالح العليا للبلد” سلوكاً عادياً طبيعياً، قد يسمح لاحقاً “بشرعنة” تدخله في الحياة العامة. وهذا الجانب قد يكون جديداً في بعض البلدان، لكنه موجود في بلادنا، غير أنه سيجد غطاء جديداً ليمدَّ رجليه ويوسع صلاحياته، مع انحسار أعداد المعارضين والمحتجين.
وثمة سلبية مرتبطة بالتوسع في استخدام الإنترنت والتواصل والإدارة والعمل عن بُعد، وهي “الكسل الدماغي”، إذ إن ارتباط العمليات الحسابية، والبحث والذاكرة، وحفظ الأسماء والأرقام والذكريات والمواد العلمية والثقافية، في الحاسوب أو الهاتف، يحمل مخاطر عدم سعي الإنسان لتحفيز إمكاناته الذاتية. وهذه سلبية قديمة متجددة؛ لكن الضغط الهائل للجائحة باتجاه العزل المنزلي، وتكييف الحياة وإدارتها “الكترونياً” سيدفع نحو تعميق هذه السلبية، وتعطيلٍ أكبر لقدرات الإنسان وإمكاناته.
أكثر المواضيع خطورة ما جرى ويجري تداوله على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، هو مشروع “رقمنة” حياتنا ونشاطاتنا المختلفة المالية والتعليمية والصحية والاقتصادية. ويتم ذلك عبر إنشاء شبكة تشمل جميع الأشياء من إنسان وحيوان وجماد ووسائل وخدمات؛ من خلال ما يعرف بإنترنت الأشياء (Internet of Things- IoT)؛ ومن خلال تطوير شبكة الاتصال العالمي من الجيل الرابع (v4) إلى الجيل السادس (IPv6)، بحيث تستوعب أعدادا مضاعفة مما كانت تستوعبه من قبل، وتكفي لتواصل الإنسان مع مؤسسات الدولة، ومع العمل، والبيئة الاجتماعية، ومع أدواته المنزلية (ثلاجة، مكيف، تلفزيون، إلخ)، ووسائل موصلاته سيارته؛ ومع خدمات الشراء والتسوق.
ويقول المُتبنون للموضوع إن ذلك يتم من خلال شريحة صغيرة (بحجم حبة الأرز) تُزرع تحت جلد الإنسان، يُطلق عليها “آر اف أي دي” (Radio Frequency Identity document RFID)، تأخذ شكل الهوية العالمية الموحدة. ويضيف المتحدثون في “المؤامرة” أن الأنظمة العالمية والدول ستستفيد من “كي الوعي” الذي حصل نتيجة جائحة كورونا، وسهولة تقبل الناس لأي إجراءات أو قيود “لشرعنة” فكرة هذه الشريحة وقوننتها، بحيث لا يستطيع الإنسان السفر أو العمل أو الحصول على الخدمات من دون تركيبها.
وهذا يعني عملياً “تشييء الإنسان” أي يصبح مجرد شيء يسهل مراقبته والتحكم به عن بُعد، بل ويسهل قتله في ثوان من خلال إعطاء أوامر للشريحة بإيقاف التنفس أو نبض القلب مثلاً. وبتعبير آخر، يفقد الإنسان أهم خاصيتين في كونه إنساناً وهما الحرية والإرادة، بالإضافة إلى فقدانه لأهم احتياجاته وهي “الخصوصية”.
ما مدى صحة ذلك؟
المؤيدون لصحة اتهام قوى كبرى أو جهات نفوذ عالمية ممن يُنسبون عادة إلى تبني “نظرية المؤامرة”؛ يتحدثون عن حالة متعمدة في نشر الفيروس وتطويره خرجت من المختبرات (الصين، أمريكا، دول أوروبية…)، وعن تضخيم إعلامي كبير غير متناسب إطلاقاً مع حجم الضرر الذي يتسبب به الفيروس؛ الذي هو أقل بكثير مقارنة بوفيات الإنفلونزا والإيدز والأمراض المعدية والملاريا وحوادث الطرق وغيرها. وهدف هذا التضخيم إنشاء حالة هلع وذعر تتبعها الإجراءات التي نعايشها لتهيئة الناس لقبول التنازل عن خصوصياتهم وجوانب من حرياتهم وإراداتهم. ويستشهدون على ذلك بأن الهزة العالمية التي تسببت بها كارثة انهيار البرجين (11 أيلول/ سبتمبر 2001) نتجت عنها إجراءات أمنية عالمية واسعة استُخدمت ذريعة في التضييق على الحريات والرقابة على الناس، بل وفي احتلال دول وإسقاط أنظمة سياسية. وبعد أن كان الناس يرفضون الكاميرات ويستهجنون تركيبها، فقد أصبحت أمراً طبيعياً حيث تنتشر عشرات الملايين منها الآن في الشوارع والشركات والمنازل. ولا يوجد ثمة مكان عام يستطيع الإنسان أن يعيش فيه خصوصيته؛ بل ويمكن الآن تعقب أي شخص من خلال بصمة الوجه، حيث التي تم تزويد الكاميرات بهذه الخاصية. ثم إن الناس قد “استسلموا” وتم “كي وعيهم” بشأن معظم خصوصياتها مع تنزيل البرامج المختلفة (فيسبوك وواتساب، وإنستغرام وغيرها) على هواتفها الذكية.
المعارضون لصحة الادعاء يقولون إن معظم ما ورد بشأن الشريحة الممكن غرسها في جسد الإنسان (RFID) غير صحيح، وأن الفكرة مطروحة منذ نحو عشرين عاماً، وأن فكرة تركيبها تحت الجلد غير عملية، لإمكانية انتهاء بطاريتها بعد مدة زمنية محدودة، وبسبب الأضرار التي تُسببها الموجات اللا سلكية والكهرومغناطيسية الناتجة عن التعامل معها للجسم. وبسبب وجود معارضة كبيرة في العالم الغربي لهكذا إجراءات، بالإضافة إلى أن ما نُسب إلى بيل جيتس بشأنها غير صحيح، كما أن الادعاء بأن عشرة ملايين أمريكي قد تم تركيبها في أجسادهم غير صحيح أيضاً. ثم إن الادعاء الذي يُصرّ على أن الفيروس لم يُطور مخبرياً ما زالت قوية، مع الإشارة إلى أنه ليس من مصلحة الدول أن تُدمر اقتصادها ومواردها المالية وتعرض مؤسساتها للإفلاس من أجل تركيب الشريحة.
وما يعنينا هنا ليس حسم الجدل بشأن المدى الذي يمكن أن يصل إليه “كي الوعي”، ولكننا نود أن نشير إلى أن الأنظمة السياسية بطبيعتها تسعى للتعامل مع الفرص لتقوية حضورها ونفوذها وخدمة مصالحها؛ وأن حالة “التدافع” بين المواطن والنظام السياسي، وبين القوى العظمى نفسها، وبينها وبين الدول والشعوب المستضعفة؛ هي حالة قائمة مستمرة عبر التاريخ.
ولذلك، فعلى الناس والمفكرين والقيادات الشعبية والمجتمعية ان يراقبوا ما يجري بعين فاحصة، وألا يقعوا أسرى “كي الوعي”، خصوصاً عندما تحاول السلطات أن تتقدم خطوات باتجاه سلبهم أياً من خصوصياتهم وحرياتهم وإرادتهم.