دخلت العشر الأوائل من ذي الحجة في يوم إجازتنا أمس، وردّدنا في مساجدنا حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم : “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني أيام العشر – قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء”. أخرجه البخاري، وعجيب هذا الربط بين فضل هذه الأيام وإفراغ الوسع في بلوغ أقصى درجات الدفع عن حياض الأمه، فوحده الذي يقدم ماله وروحه في سبيل الله هو الأفضل عملا من كل أشكال العبادة الأخرى في هذه الأيام. وإذا كان الخطاب في هذا الحديث سيصل إلى أسماع العامة فإن المتصور أن من يسعى منهم إلى هذه المنزلة الرفيعة قد جعل بينه وبين الله عمارا سائر أيام السنة مما أهله لأن يصل ألى أعلى مرتبة في العبادة وهي أن ينال صفة “أحياء عند ربهم يرزقون”.
هذه الأيام الأعظم عند الله من سائر أيام السنة هي الأيام التي ينتظرها العبد المؤمن ليكون في أعلى مراتب العبودية لله، يبيع لله وقته فلا يلهو فيه، ويبيع لله شهواته فيهجر التبسط في ألوان الطعام والشراب حتى يقضي وقته صائم النهار قائم الليل مشغول البال في اجتراح أعظم الأعمال التي تقربه إلى ربه جبرا للخواطر وإغاثة للملهوف وقضاء لحاجة الضعيف مسكينا ويتيما وأرملة وأسيرا.
وتأتي العشر الأوائل من ذي الحجة هذا العام عابرة لسوق الله الذي تُعرَض فيه أثمن بضاعة مجسدة على أرض الواقع بسلوك أهل غزة طريقهم إلى أحسن العمل وأكثره قبولا عند الله، فلقد ثبتوا قاصدين مريدين هذا الطريق، لم يخشوا موتا فاتحا فمه ليبتلع صغيرهم قبل كبيرهم ونساءهم قبل رجالهم، ومع الثابتين في غزة من يشاركونهم مشاعرهم من بعيد لكنهم لا يكادون يملكون فوق الدعاء إلا قهرا في قلوبهم من واقع أمة باتت مضيعة يخطط لهلاكها عدوها ويسانده في خططه أراذل الأمة المنافقون، الذين يذبحون غزة وأهلها بمعية أعضاء الطابور الخامس من الذين يسهلون لعدونا مهمة ذبحنا وتصفية قضيتنا كما يخططون.
ولأن أغلبية أعضاء الطابور الخامس هم من المسلمين، في حين يقف كثير من غير المسلمين مناصرين لقضية غزة وأهلها، فإني أودّ الاطمئنان على حال عبادة هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام ممن يسهلون مهمة يهود في تصفية قضية فلسطين والقضاء على حلم حريتها، تُرى يا من تشاركوننا في النطق بالشهادتين خبّرونا ما أعظم ما تتقربون به إلى الله في هذه العشر الأوائل؟
خبرونا عن آخر جهودكم في الضغط على المقاومة لتقبل مشروع النتن- بايدن لاستعادة رهائنهم مقابل عودة القتال لاجتثاث ما بقي من حماس بزعمهم.
خبرونا عن آخر جهودكم في خنق غزة وعن مدى استجابتكم للمزيد من الضغوط الأمريكية لعزل المقاومة وتضييق الخناق على قيادتها السياسية حتى لا يعود لها مكان يؤويها في بلد عربي أو مسلم.
خبرونا عن خططكم واقتراحاتكم الذكية على أولياء نعمتكم فيما يخص اليوم التالي للحرب، وقد هيأت لكم حماقتكم أنكم تملكون الأيام ومستقبلها والأحداث وقفلتها، وقد عميت قلوبكم قبل عيونكم عن رؤية هزيمتكم جميعا في الميدان كل يوم، ولا أدري أين عنكم أهل المنطق ليؤكدوا لكم أن الذي خسر أعظم قادته العسكريين في الميدان أو حتى بانهزامهم ورفضهم النزول إلى الميدان لا يمكن أن يحصد من هذه المقدمات نتيجة العزّ والظفر؟! أيمكن أن يحصد زارع البرسيم أجودَ أنواع بُرنا البلدي المحسّن؟ وهل يحتاج الأمر لإيقاظ أرسطو وأفلاطون ليخبراكم أنكم في ضلال مبين؟!
ولا يضحكني أكثر من مشهد البائسين الذين يُحكَمون في بلادنا ولا يَحكُمون، ويدارون ولا يديرون، ثم يشبعوننا مواعظ عن أفضل الأقوال والأفعال عند الله، وعن فضل عشر ذي الحجة وهم مأمورون أن يجففوا ينابيع الفضل فيها وفي سواها من أيام السنة، والحقيقة أن هؤلاء البائسين جزء من معاناتنا وعقبة كأداء في طريق العمل الصالح في عشر ذي الحجة وسواها، فإن لم يملكوا مرآة تجلي لهم قبح صورتهم فإننا نملك أن نخبرهم بأنهم جزء من قوة عدونا في بطشه بمجاهدينا وأنهم الجسر الذي يعبر فوقه عدونا ليحاربنا في ثقافتنا وثبات شبابنا بل ووعيه لطبيعة المعركة التي يحاول البائسون وأسيادهم أن يشوهوا صورتها ويغتالوا نقاءها.
ليس من حق من لا يفرق بين التمرة والجمرة أن يحدثنا عن فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، وليس من حق الراكن إلى الباطل وأهله أن يحدثنا عن فضل الجهاد بالمال والنفس الذي يتفوق من يجمع بينهما على سواه من العابدين.
وإنني على يقين أن العشر الأوائل من ذي الحجة في العام القادم -عشناها أو لم نعشها- ستكون نورا على المهتدين، نارا يتلظى بها الجاحدون، وإن أبلغ ما نردّ به على المشككين بمستقبل هذه المواجهة ما يصدر من تصريحات على ألسنة قيادات عدونا السياسية والعسكرية التي تحمل كل عبارات اليأس من أي أفق مستقبلي لنصر ممكن أو متخيل لمشروعهم الإحلالي المأزوم، وهذا جزء من بركات العشر الأوائل ومبشر من مبشرات الجود بالمال والنفس الذي يتقدم على أي عمل صالح في هذه الأيام.