حينما رأى أحد الأساتذة الكرام كتابي «كيف ينظرون إلينا؟» الذي يقع في قرابة 450 صفحة، علق قائلا: «ومن يقرأ هذا الحجم من الكتب؟! الناس لم تعد تقرأ!» وانتقلت عدوى الوجبات السريعة للمعرفة أيضا، كانت عباراته الصريحة صادمة بعد الجهد الكبير والسنوات التي قضيتها في تأليفه!
أصبحنا نشهد النفور من الكتابة الطويلة بتعمق في حقل ما، لغير الأكاديميين والمتخصصين الذين باتوا يواجهون تحديا كبيرا وعبئا ثقيلا، مضطرين في ظل تدني معدلات القراءة كماً وكيفاً، إلى الاختصار والإيجاز اللذين انعكسا لاحقا في تشوه الأفكار التي لم تأخذ حقها في العرض والتوضيح.
إن إيقاع الحياة السريع، وكثرة الالتزامات والمشتتات، ووجود الإنترنت بما توفره من تدفق للمعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي وما تطرحه من طرق مغرية وصور متنوعة في عرض المعلومة مكتوبة ومسموعة ومرئية وفي أي وقت، قد ساهمت إلى حد كبير في شيوع القراءة العابرة، وما اصطلح عليه بعضهم بثقافة الساندويش، وصرفت الكثيرين من غير المختصين عن القراءة المتوسعة المتعمقة.
ولعل من المقولات المأثورة أن التركيز هو سر النجاح، وابتعاد الكثرة عن القراءة المتعمقة، بما فيها من معلومات مركزة، حرمهم من فوائدها العديدة، كبناء العقل والشخصية، وزيادة المعرفة، وتكوين المهارات الجديدة، وفرص تعديل السلوكيات الخاطئة أو غير المنتجة، بل حرمهم كذلك من متعة لا يعرفها إلا القارئون بنهم!
وبعيداً عن التهويل والمبالغة، وبغض النظر عن المعلومات الكثيرة المغلوطة عن معدلات القراءة ونسبتها والفرق بين العالمين العربي والغربي وكيفية قياسها، إلا أن المواطن العربي يقرأ ما يساوي 35.24 ساعة سنويا، أي ما يساوي 5.7 دقائق يوميا، كما تبين أن هناك أولوية للقراءة الإلكترونية بمتوسط عربي بلغ 19.45 ساعة سنويا، 3.2 دقائق يوميا مقابل 16.03 ساعة سنويا، 2.6 دقيقة يوميا للقراءة الورقية، بما يعكس هيمنة تكنولوجيا المعلوماتية، وذلك وفقا لمؤشر القراءة العربي 2016 الصادر عن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم وبشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي كان نتاج دراسة أجريت على ما يزيد على 148 ألف مواطن من كافة الدول العربية.
لقد بات وجود الملخص التنفيذي، في الكثير من البحوث والدراسات، مطلبا ملحا في هذا الزمن، خاصة عند مخاطبة متخذي القرار وغيرهم من المشغولين، والملخص التنفيذي وإن كان مهماً في الماضي لمخاطبة هؤلاء تحديدا، فإنه في زمننا أصبح ضروريا كذلك لمخاطبة عامة الناس!
سيبقى للاختصار قوته ورغبته حتى لو قدم قراءة مشوهة بما يفرضه من الاختزال والاختصار وحتى لو زاد عدد حروفه كما فعلت شبكة «تويتر» على سبيل المثال بزيادة حروف التغريدة من 140 حرفا إلى 280!
لقد اشتقت لتلك الأيام التي كنا نعكف فيها على قراءة كتاب من أوله لآخره والشعور بالانتقال إلى عالم لآخر، حيث يتمحور حديث الكتاب عن ظاهرة معينة، وما يتصل بها من أفكار ومشكلات بحثية أو وجهات نظر متعددة وتزينها الأرقام قوة، والتنقل في بستان من الزهور النضرة ما بين نقاش وعرض وتوصية واقتراح، ثم حينما أنتهي من الكتاب تبقى رحلتي معه محفورة في الذاكرة وأتأثر به لسنوات طويلة دون أن أشعر بذلك!