العرب والأتراك قومان متغايران في الجنس متجانسان في المُعتَقَد، الإسلامِ الحنيف. قد غبر عليهما تاريخٌ مشترك في ظلال هذا المُعتَقَد يمتدُّ حتى الساعة إلى أكثرَ من ثلاثة عشرَ قرناً من الزمان. وهو تاريخٌ في معظمه – إنْ لم يكن كُلِّه – مُشرِّفٌ مَجِيد، قُضِيَ في خدمة الدين العظيم ودولته العليّة. وقد بدأَ هذا التاريخُ منذ العصر العبّاسي الأول أواخر القرن الثاني للهجرة على عهد المعتصم (218 – 221هـ) إذ أخواله من الترك ومنهم معظم جنده، وانتهى بموت السلطان عبد الحميد الثاني (1872 – 1909م) مروراً بالسلاجقة والمماليك وبني عثمان.
وإذا كان العرب المسلمونَ قد نهضوا بهذا الدين دعوةً وعِلماً وعدالةً وفتحاً وتأسيسَ دُوَلٍ وخلافاتٍ سادَت العالم القديم آنذاك حتى وَصَلَتْ إلى فرنسا غرباً وإلى الصين شرقاً على مدى سبعة قرونٍ، أصابهم بعدَها الضعف لتراخيهم عن الالتزام بمبادئ رسالتهم السماوية، فإنَّ إخوانَهم الأعاجمَ من مختلف الجنسيات، ولاسيّما الأتراكُ لم يتركوا الرايةَ تسقطُ، بل قاموا يرفعونها بكُلِّ قوةٍ حتى أعادوا للإسلام جِدَّتَه، ولاسيّما بعد سقوط خلافة العباسيِّينَ في الشرق والأمويين ومَنْ بعدهم في الأندلس، فساروا بهذا الدين دعوةً وجهاداً حتى وصلوا إلى أبواب فينّا في قلب أوروبا.
ولا ريبَ أنَّ الدول المعاديةَ لهذا الدين من الفرنجة أهلِ أوروبا وأمريكا والحاقدينَ من أبناء يهود كانوا – وهم يرونَ علمَ الإسلام يرتفع صُعُداً ودولتَه الناشئة تكتسح الممالك – يعملونَ بالليل والنهار على إسقاط هذا العلم والقضاء على دولته التي تمثَّلت أخيراً بالخلافة العثمانية وارثةِ الخلافة الإسلامية بقيادة إخوانهم العرب، حتى تحقَّق لهم ذلك، ولأسباب داخليةٍ في هذا الشأن وخارجية، فسقطت الخلافةُ وباءَ العرب والأتراك جميعاً بالخيبةِ والخُسران، وعادوا شراذِمَ متنازعينَ لا حولَ لهم في العالم ولا طول. وقد انقضى على هذا السقوط المُرِيع قرنٌ كاملٌ ذُبِحَتْ فيه العِزّة ونُحِرَتِ الكرامة وقُتِلَتِ الوحدة وماتَتِ الهيبةُ، وذلك إثرَ راياتٍ جاهليةٍ رُفِعَتْ في البلاد!!
وما من مِراءٍ أنَّ المتآمرين على هذه الأُمّة ودينها ووحدتها وخلافتها كانوا وما زالوا يُدرِكونَ أنّهم وَجَّهوا إلى المسلمين عرباً وأتراكاً خاصّةً ضربةً قاضيةً في هذا الأمر، وذلك بإبعادهم عن رابطتهم الربانية وزرعِهم بينَهم روابِطَ عصبية، ويُدركون كذلك أنهم إذا غفلوا عنهم ولو للحظة، فقد باؤوا هم بالذلِّ والهوان!! إذْ حالهم مع المسلمين كالجزّار الذي بعدَ أنْ نحر ذبيحته من الوريد إلى الوريد بَقِيَ فوق رأسها يحملُ مُديَتَه حتى لو عَلِمَ أنها لَفَظَتْ آخر أنفاسها، لخشيته الشديدة أنْ قد تكونُ لم تَمُتْ حقّاً، أو قد تعود لها الحياة من جديدٍ بطريقةٍ أو أُخرى. ومن هنا كان تآمره واصباً ويقظته دائمةً وحراسته في أرفع مستوياتها. أجل، إنَّ هذا هو الوصف الحقيقي لواقع الغربيين مع حال أُمّتنا من عرب وأتراك خاصّة. وأقول الأتراك، لأنَّ أولئكَ الغربيينَ ما زالوا يُحِسُّون بوقع خنجر فتح القسطنطينية في قلوبهم، وهم يخشون فتح روما ويتوقَّعونَه يوماً بعدَ يوم أو سنةً بعدَ سنة أو حتى قرناً بعدَ قرنٍ، فهو قادِمٌ لا محالةَ!!
وما من شكٍّ أنَّ المسلمين أعاجِمَ وأعارِبَ أحسوا بالخسران العظيم والضلال البعيد بفقدان الخلافة وضياع الوحدة، فقاموا يُنادونَ بتلافي الأمر والعمل من جديدٍ لإعادة المجد والدعوة للحكم والمطالبة بالوحدة، إذْ أدركوا تماماً أنَّ المسألةَ مسألة تآمر شياطين على هذا الدين وأصحابه. نعم، نهضَ رجالٌ واعونَ وعلماءُ مُدرِكونَ في شتى بقاع العالم الإسلامي في الهند وباكستان ومصر والشام والمغرب وفي تركيا يصيحون بأبناء أُمّتهم أنِ استيقظوا وأدرِكوا عُمقَ المؤامرة وشدَّةَ الكيد، وقوموا وانظروا، فهذا الذبّاح ما زال يحمل بيده سكِّينه المسمومة، ولو أنّه بين الحين والحين يُخفيها حتى لا يُثير عليه النائمين أو يُنبِّه المخدرين، فينكشف أمره فيُلاحَق ويُطارَد.
غيرَ أنَّ أولئكَ الأعداء المتآمرينَ، قد رتَّبوا منذ أنْ ذبحوا الأُمّة، من أبنائها مُخلِصين وخاصّةً من العسكريين ليحملوا أفكارهم ويكونوا نوّاباً عنهم لقمع أيةِ حركةِ وعيٍ فيها مدفوعاً – إزاء ذلك – لأولئك التلامذة الأجرَ مضاعفاً من مناصبَ رفيعة وأموال غزيرة ومتع وفيرة، وقد ربَّوْهم على أعينهم وعلَّموهم من الأفكار والأخلاق ما نزعوا به من قلوبهم أيّةَ رحمةٍ أو رأفةٍ بمناوئيهم أعداء سادتهم المتآمرين، ولاسيّما من أبنائها المخلصينَ، وخاصّة الإسلاميين. وقد تمثّل هذا أكثرَ ما تمثّل وأشدّه بالانقلابات العسكرية التي رَعَتْ معظَمَها إنْ لم يكن جميعَها أمريكا، إذْ جعلَتْ من العساكر أصحابَ السلطة الأولى في الدولة، بعد أنْ تركوا مهمّتَهم الأساسية وهي الدفاعُ عن الأوطان إلى السيطرة على السياسة والاقتصاد. وهو ما كان في تركيا إلى ما قبل بداية الألفية الثالثة، وفي معظم البلاد العربية ولا يزال.
وإذا قلتُ: إنَّ أكثرَ شعبَيْنِ أُضِيرا من هذا التآمر الدولي هما العرب والأتراك، فإنّني لا أكون مجانباً للحقيقة. فلقد خَسِرَ الأتراكُ خلافتَهم وخَسِرَ العربُ وحدَتَهم وكرامَتَهم وجوهرةَ بلادهم فلسطين. ولا ريبَ كذلك أنَّ الشعبَيْن منذ المؤامرة وَعَيا على فداحة الخطْب، وراحا يتلمّسان الطريق للوصول للمجد وإلى النهوض من الوَهْدة التي سقطوا فيها. غيرَ أنَّني أستطيع القول: إنَّ حزنَ الأتراك على مجدهم الضائع وتأثُّرَهم بما حصلَ لهم ووعيَهم على خطورة المؤامرة وعمَلَهم للعودة إلى سابق عهدهم، كانَ أعظمَ مما حصلَ عند العرب بكثيرٍ. ومن هنا بدأَ الوعيُ في تركيا باكراً منذ زمان بديع الزمان النورسي أيام أتاتورك نفسه، وأيام طلائع الحركة الإسلامية منذ الخمسينيات رغمَ تجبُّرِ الجيش هنالك وطُغيانه، ومن ثَمَّ ظهور حزب السلامة على يدِ أربكان والذي آلَ إلى حزب العدالة والتنمية على يدِ أردوغان الذي حَيَّدَ الجيشَ وأعادَه إلى ثكناته.
وكان من آثار هذه الإيجابيات عند القوم أنَّ الشعبَ هناك التفَّ حول أبنائه المخلصين من الدعاة إلى الله الساعين إلى إعادة عزِّهم، فَقَبِلوا بإفرازات صناديق الاقتراع حتى من الأحزاب المُعارِضة، ولم يقبلوا الانقلاب عليها وخاصّةً أنَّ هؤلاء الأبناء الجُدد من أصحاب التوجُّه الإسلامي وَعَوْا على الحقيقة فنذروا أنفسهم لخدمة بلدهم والاستقلال به عن القُوى الكبرى والاعتماد على الذات والحفاظ على المال العام ونظافة أيديهم في هذا الشأن، فأصبحَتْ تركيا اليوم ليست في اقتصادها أو قرارها مرتهنةً لشرق أو لغرب، بل وصلَتْ إلى درجة التحدّي لِمَنْ يُحاول أنْ يستهين بكرامة شعبها وحِمَى أوطانها، وازدهرَ اقتصادُها ازدهاراً كبيراً حتى تحرَّر من ربقة صندوق النقد والبنك الدوليَّيْن، وراحَ حُكّامه الجُدد يمدُّونَ خطوطاً على مستوى النِّدِّيّة مع دول العالم الكبرى، وجسوراً أخوية مع العرب أشقّائهم في الدين، ويهتمّون بقضية فلسطين ويُهاجمونَ (إسرائيل) في اعتداءاتها على إخوانهم الفلسطينيين على الرغمِ من العلاقات الدبلوماسية بينَ الطرفَيْن والتي لم يكن لهم يدٌ فيها.
أمّا نحن العرب، إذا كان إخواننا الأتراك قد حافظوا على حدودٍ مقبولة لبلادهم، فنحن لم نُحافظْ على حدودنا من أنْ يُعتَدَى عليها، بل قَبِلْنا مغتبطين بتمزيقها على يدِ سايكس وبيكو وأمثالهما في شرق وطننا العربي الكبير وغربه. وما زالَ العسكر يتحكَّمون بمصير بلادنا ومقدّراتها وقضاياها وقراراتها بعيداً عن مهمّتهم الأولى في حراسة الديار، وما زالت الانقلاباتُ قائمةً عندنا ومستمرّة، وسياسةُ التضييق على الدعاة إلى اللهِ من تسجينٍ وتقتيلٍ وإبادةٍ ماثِلَةٍ والتجرُّوء على المال العام سمةً سائدةً لا تُخطِئُها العينُ في كُلِّ أقطارنا يقومُ بها مَنْ يدَّعي حمايتها، ولا نفتأُ نُنادي بالديموقراطية أسلوب تعاملٍ مع صناديق الانتخابات ومع ذلك نتلاعب بها ونرفضها إذا لم تكن في صالح المسؤولينَ، لأنَّ سادتهم من دول الغرب والشرق يرفضونها لمعرفتهم أنّه إذا نجحَ الصادقونَ في بلاد العرب فقد ضاع خُبزهم فيها، وخسرتْه معهم ربيبتهم (إسرائيل)!!
عجباً لنا نحن العرب اليوم، مرّت علينا مئات العقود دون أنْ نصحُوَ. ضاعت خلافتنا منذ أكثر من ثمانية قرون وفقدْنا وحدتنا التي ما كانت إلاّ بالأُخوّة الإيمانية واستبدلْنا بها روابطَ عنصرية عَضَضْنا عليها بالنواجذ وحاربْنا أُخوّة الإسلام، وعَلِمْنا أنَّ إخواننا الأعاجم يحترمونَ الإسلام، وقد أخذوا ببعض أهدابه وتقدَّموا ونحن ما نزال نُكَبُّ على وجوهنا، وعَلِمْنا أنَّ المتآمرين علينا من فرنجةٍ ويهود يُحاربون ديننا، ومع ذلك نُعاونهم فيه ونساعدهم. فهذه تركيا التي نرى فيها اليوم خيراً كثيراً، ونرى الغرب يحاربها لتوجُّهٍ إسلاميٍّ فيها، وأنها رغم عضويَّتِها في حلف الناتو لا يقفُ هذا الغربُ بجانبها في حربها على مَنْ يُهدِّد حدودها، وها هم يتوقّفون إلى اليوم في إدخالها عضواً في السوق الأوروبية المشتركة لذلك التوجُّه فيها، ويتّهمونها بالحنين إلى الخلافة الضائعة، وها نحن – إلاّ مَنْ رَحِمَ الله – نقف معهم جهالةً منّا وغباءً أو عَمالةً ونذالةً.
تحاول تركيا اليومَ التقرّب منّا لتاريخنا المشترك احتراماً منهم للدين وإعظاماً للخلافة، وتعملُ على مساعدتنا في البؤر الساخنة مثل سورية وقطر والصومال وليبيا، ونحن نهاجمها في ذلك ونقف مع أعدائها، ولا نكتفي بذلك، بل نقفُ ضدَّ أمتنا وسِلْمنا في بعض بلادنا التي تنتشر فيها النزاعات فنزيدُها اشتعالاً، ونَعيبُ عليها طموحها للخلافة ونلمزها به، كأنَّ الخلافةَ – واحزناه – عندنا كانت علينا عاراً وشناراً، وكأنّها لم تكن يوماً في الراشدينَ ولا في الأمويِّينَ والعبّاسيين وكُلُّهم عربٌ أقحاحٌ؟!
وفي الختام، هل لي أنْ أقول: وبكُلِّ صدقٍ، إنَّ الأتراك في سعيهم اليومَ للمجدِ وتلمُّسهم طريق النجاةِ وعملهم للخَلاصِ من وَهْدَةِ السقوط أقربُ منّا نحن العرب أصحابَ الرسالة الأوَّلين وحَمَلَةَ الإسلام السابقينَ وأبناء الخلافة السالفينَ؟! وإلاّ فأينَ أنتم أيها العربُ من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلّم -: (الأئمة من قريش) ولكنْ بشروطهم عادلينَ، وعالمينَ، وأنقياءَ مُجاهدينَ، أمْ أنّكم عدتم كما كنتم قبل الإسلام أعراباً جاهليين وبُداةً جُفاةً وتَبَعَةً للفرس والروم كما هي حالكم اليوم تبعةً للروس والأمريكان؟! وتركتم أمرَ التنافس في الخير كما قال تعالى: (وفي ذلكَ فليتنافسِ المتنافِسونَ) ورُحتُم تتنافَسُون في الشرِّ، وتركتم أمرَ الله وحُكمه فأدالَ منكم لقومٍ آخرينَ حملوا ما نكصتم عن حمله فوفقَّهُمُ اللهُ وما زلتم في الحضيض، وصدق الله العظيم: (وإنْ تتوَلَّوْا يستبدلْ قوماً غيرَكُم، ثُمَّ لا يكونُوا أمثالَكُم) ولا حول ولا قوَّةَ إلاّ بالله.