يقول تعالى فى سورة التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ () لتَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. وقفت عند هذه الصفة (العابدون) وأردت أن أعرف أقوال أهل التفسير فيها، فكانت هذه الجولة.
التفسير الميسر: ومن صفات هؤلاء المؤمنين الذين لهم البشارة بدخول الجنة أنهم الذين أخلصوا العبادة لله وحده وجدوا في طاعته،
السعدى: كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات؟ فقال: هم …{الْعَابِدُونَ} أي: المتصفون بالعبودية للّه، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين.
الوسيط لطنطاوي: العابِدون لخالقهم عبادة خالصة لوجهه، . . ولم يذكر – سبحانه – فى الآية لهذه الأوصاف متعلقاً، لأن المقام فى مدح المؤمنين الصادقين الذين أخلصوا نفوسهم لله تعالى، فصاروا ملتزمين طاعته فى كل أقوالهم وأعمالهم.
البغوى: ثم وصفهم فقال: (العابدون) المطيعون الذين أخلصوا العبادة لله عز وجل
ابن كثير : هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة: ( العابدون ) أي: القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها، وهي الأقوال والأفعال.
القرطبى: {العابدون} أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه. واختلف أهل التأويل في هذه الآية هل هي متصلة بما قبل أو منفصلة، فقال جماعة: الآية الأولى مستقلة بنفسها، يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها. وقالت فرقة: هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط، والآيتان مرتبطتان؛ فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله. قال ابن عطية : وهذا القول تحريج وتضييق ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة، وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: التائبون العابدون رفع بالابتداء وخبره مضمر; أي التائبون العابدون – إلى آخر الآية – لهم الجنة أيضا، وإن لم يجاهدوا إذ لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد، لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. واختار هذا القول القشيري وقال: وهذا حسن إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله: اشترى من المؤمنين لكان الوعد خاصا للمجاهدين.
الطبرى: عن الحسن أنه قرأ (التائبون العابدون)، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق، (العابدون)، هم الذين ذلُّوا خشيةً لله وتواضعًا له، فجدُّوا في خدمته، وعن قتادة: (العابدون)، قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. قال الحسن: عبدوا الله على أحايينهم كلها، في السراء والضراء.
ابن عاشور : أسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين} فكان أصلها الجر، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخباراً لمبتدأ محذوف، هو ضمير الجمع، اهتماماً بهذه النعوت اهتماماً أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية، ويسمى هذا الاستعمال نعتاً مقطوعاً، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى. فالعابدون المؤدّون لما أوجب الله عليهم .
ويقول سيدنا صاحب الظلال: ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال، والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة ،{التائبون. العابدون. الحامدون. السائحون. الراكعون الساجدون. الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. والحافظون لحدود الله} والعابدون … المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية، إقراراً بالربوبية … صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل، وبكل قول، وبكل طاعة، وبكل اتباع. فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية.
ثم يعقب- رحمه الله- على الآيتين يقول: هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته. وهذه هي صفاتها ومميزاتها، توبة ترد العبد إلى اللّه، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح. وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده وغايته ووجهته. وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل للّه والثقة المطلقة برحمته وعدله. وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق. وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة. وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك.
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالاته. قتال في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه؛ وقتل لأعداء اللّه الذين يحادون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال.
وليست الحياة لهواً ولعباً، وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً، وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة، ورضى بالسلم الرخيصة. إنما الحياة هي هذه، كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة اللّه، أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه … ثم الجنة والرضوان … هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه، {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}… وصدق اللّه . وصدق رسول اللّه.
foxit reader full crack foxit reader full crack