ليس من العسير القول إن مؤرّخي المستقبل، سيضعون فاصلا بين زمنين؛ زمن الهواتف الذكية مع مواقع التواصل، وزمن ما قبلها، الأمر الذي يبدو أكثر وضوحا حتى من تصنيف سابق عما قبل الفضائيات وبعدها، ولا شك أن عوالم الحكم والسياسة والعمل العام هي الأكثر تأثّرا بهذه الظاهرة.
عبثا تحاول الأنظمة الشمولية وشبه الشمولية محاصرة تلك الظاهرة عبر أدوات القمع التقليدية، وزج الكثيرين في السجون بسببها، فالخرق بات أكبر من قدرات الراتق، ولم يعد بالإمكان مراقبة الملايين من البشر، ومئات الملايين من الرسائل التي تتدفق في كل ساعة عبر الهواتف وتطبيقاتها (“الواتس” في مقدمتها)، وعبر مواقع التواصل.
ليست الأنظمة الشمولية أو شبه الشمولية هي وحدها من تتأثر بتلك الأدوات والمواقع، بل يشمل ذلك الديمقراطية أيضا، والتي صارت كل حركة لها مرصودة ومراقبة من الجماهير على نحو استثنائي.
وفي حين كانت الفضائيات تمنح ثقافة سطحية للناس، أو مجرّد أخبار كان بعضها محجوبا عنهم لأسباب ذات صلة بعلاقات الأنظمة وصفقاتها، فإن مواقع التواصل تبدو أكثر تأثيرا، فهنا والآن، بات كل شخص يحمل ما يشاء من الفضائيات في جيبه، ويتنقل بينها كما يريد، ويشاهد الفيديوهات والأخبار، ومن خلال “تويتر” يتابع كل الأحداث، ثمّ يعيد إرسال ما أحبّ منها لأقاربه وأصدقائه، ويعرف الجميع كيف أن مقطعا صغيرا قد طافّ الأرض، وشاهده الملايين من البشر خلال ساعات.
قبل زمن الهواتف الذكية وتطبيقاتها؛ كان معدل القراءة لدى الغالبية الساحقة من الناس في العالم الثالث لا يتعدى بضع صفحات في العام الواحد، لكن مشهد اليوم بات مختلفا إلى حد كبير، فقد ارتفع معدل القراءة على نحو لافت، وإذا أضفنا النصوص المشاهدة إلى المقروءة، فسنجد أن المعدل قد ارتفع أضعافا مضاعفة، وهو ما يساهم في زيادة الوعي، ومعه الحشد ضد أشياء معينة، أو جهات معينة، أو لصالحها.
في هذه الأجواء لم يعد بوسع الأنظمة أن تمارس القمع والفساد بالطريقة القديمة، ومن دون أن يدري بقمعها وفسادها سوى قلة قليلة من الناس المعنيين بعالم السياسة والعمل العام، إذ أن الوضع الجديد جعل من البشر جميعا فاعلين بهذا القدر أو ذاك، وليسوا مجرد أرقام كما كانوا في السابق.
لعالم الهواتف الذكية وتطبيقاتها، ومواقع التواصل الكثير من السلبيات دون شك، ولكننا نتحدث هنا عن تأثيرها في عوالم السياسة والحكم والعمل العام، وحيث نجدها ذات تأثير كبير؛ من غير الممكن لجمه بالأدوات التقليدية؛ هذا إذا كان بالإمكان لجمه أصلا.
وفي حين ستحاول الأنظمة اكتشاف المزيد من الأدوات للحد من فعالية هذه المنظومة، ومن ضمن ذلك استخدام بعض أدوات التوجيه، وتشكيل جيوش إلكترونية، إن كان للمراقبة، أم للضخ والتأثير، فإن ذلك سيكون ضربا من العبث، بخاصة في حالة الدول ذات الموارد المحدودة، مع أنه سيكون عسيرا حتى على الغنية. أما اللجم بسطوة القوة، فلا يمثّل نجاحا، إذ ما قيمة نظام يفقد حاضنته الشعبية، فضلا عن أن يدخل في تناقض سافر معها؟!
نفتح قوسا كي نشير إلى تأثير هذه الظاهرة على قضايا الأمّة الكبرى، وفي مقدّمتها قضية فلسطين. هل تابعتم ما جرى خلال رمضان، وكيف تحوّل الأقصى إلى بؤره الاهتمام في العالم العربي والإسلامي، وعادت القضية إلى ذروة ألقها، رغم أنوف باعة الأوهام، ومقاولي التطبيع؟
في ضوء ذلك لا خيار أمام أهل السياسة والعمل العام في المدى المتوسط والبعيد، بل ربما القريب أيضا سوى الانسجام مع تيار التاريخ، عبر تغيير نهجهم واعتماد مسار التعددية والشفافية على كل صعيد، مع الانحياز لقضايا الأمّة، وذلك حتى يكونوا بمنأىً عن سياط النقد الإلكتروني اليومي.
أما الإصرار على النهج القديم، فلن يكون مفيدا بحال، وسيعزّز من مسار القمع الذي سيؤدي بمرور الوقت إلى الانفجار، ولا يغرّنّ أولئك أن ربيع العرب قد تم إجهاضه، فهو لم يكن سوى موجة قد تتبعها موجات بعد وقت لن يطول، فكيف وأكثر الدول العربية تعيش بؤسا اقتصاديا غير مسبوق؛ تتصدّره بطالة الشباب الذين يمثّلون وقود الغضب ورافعة التغيير في كل المجتمعات.