إن للدين دورًا كبير الأهمية في توثيق الصلة بين الناس بعضهم وبعض؛ باعتبارهم جميعًا عبيدًا لرب واحد خلقهم، وأبناء لأب واحد نسلهم، فضلًا عما ينشئه الدين بينهم من أخوة العقيدة وآصرة الإيمان، {إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ} (الحجرات: 10)، وما تحدثه هذه الأخوة الدينية من آثار في الأنفس والحياة؛ حتى نجد أحدهم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل يؤثر أخاه على نفسه، ولو كان به خصاصة.
يقول شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز، في كتابه القيم «الدين»: (لا حاجة بنا إلى التنبيه على أن الحياة في الجماعة لا قيام لها إلا بـ «التعاون» بين أعضائها، وأن هذا التعاون إنما يتم بـ «قانون» ينظم علاقاته، ويحدد حقوقه وواجباته، وأن هذا القانون لا غنى له عن «سلطان» نازع وازع، يكفل مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته. تلك كلها مبادئ مقررة، والحديث فيها معاد مملول، وإنما الشأن كل الشأن في هذا السلطان النازع الوازع: ما هو؟
فالذي نريد أن نثبته في هذه الحلقة من البحث هو أنه ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون، وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه.
السر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع عليه سمعه ولا بصره، ولا يوضع في يده ولا عنقه، ولا يجري في دمه، ولا يسري في عضلاته وأعصابه، وإنما هو معنى إنساني روحاني، اسمه الفكرة والعقيدة، فالإنسان أبدًا أسير هذه الفكرة والعقيدة.
ولقد ضل قوم قلبوا هذا الوضع وحسبوا أن الفكر والضمير لا يؤثران في الحياة المادية والاقتصادية، بل يتأثران بها، هذا الرأي الماركسي هو قبل كل شيء نزول بالإنسان عن عرش كرامته، ورجوع به القهقري إلى مستوى البهيمية، ثم هو تصوير مقلوب للحقائق الثابتة المشاهدة في سلوك الأفراد والجماعات في كل عصر، فلكي يختار الناس أن يحيوا حياة مادية لا نصيب فيها للقلب ولا للروح؛ لا بد أن يقنعوا أنفسهم بادئ ذي بدء بأن سعادتهم هي في هذا النوع من الحياة، فالإنسان مقود أبدًا بفكرة: صحيحة أو فاسدة، فإذا صلحت عقيدته صلح فيه كل شيء، وإن فسدت فسد كل شيء.
أجل إن الإنسان يُساق من باطنه لا من ظاهره، وليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافييْن وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تُحترم فيها القوانين، وتُؤدى الواجبات على وجهها الكامل، فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن أو العقوبة المالية؛ لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلى أنه سيفلت من طائلة القانون.
ومن الخطأ البيّن أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانًا للسلام والرخاء، وعوضًا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي؛ ذلك أن العلم سلاح ذو حدّين: يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولا بد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد. ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان).