قال تعالى: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186)، الدعاء سبب لانشراح الصدر وزوال الغموم، وتفريج الهموم، هو أنيس المؤمن عند المحن، ومسليه عند اشتداد الكرب ونزول المصائب، مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين فما استجلبت النعم بمثله، ولا استدفعت النقم والبلايا بغيره، والدعاء ثمرته مضمونة، وربحه حاصل، وهو قطع العلائق عن الخلائق، وفيه اعتماد القلب على الله والاستعانة به وتفويض الأمور إليه وحده – سبحانه وتعالى -، بل إن الله ليغضب حين يترك العبد سؤاله.
أخي الحر الأبي
إن الدعاء مع الأخذ بالأسباب عبادة عظمى بل هي العبادة، فالدعاء ذكر لله تعالى وقربة دائمة وعبادة مستمرة، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بالإكثار من الدعاء واللجوء المستمر لبابه سبحانه نطرقه ليل نهار فهو سبحانه لا يغفل ولا ينام قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60)، روى النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “الدعاء هو العبادة” ( والترمذي، وأحمد)، وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدعاء مخ العبادة” (رواه الترمذي)، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186). قال عطاء وقتادة: لما نزلت ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ قال قوم: في أي ساعة ندعوه؟ فنزلت. الثانية- قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أي قريب بالعلم وبالإجابة ومن أوليائي بالإفضال والإنعام. وقوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾. فوعد ربنا بأن يستجيب لمن دعاه، وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع”. وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: “أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه”.
أخي الحر الأبي
للدعاء تأثير قوي عند من يحسن الظن بالله واستشعار قبول الله عز وجل للدعاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: “إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني” (رواه أحمد)، فخذ أخي الحبيب من الدعاء مسلكا لك مع الله تناجيه وتدعوه وتحسن الظن به سبحانه فهو الودود الرحيم بنا. يقول سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق، ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو أقوى وأقدر وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي لا يضام من يلجأ إليه، ولا يخيب من يتوكل عليه (ظلال القرآن).
ثلاثية الدعاء
أولا: دعاء المضطر
أخي الحر الأبي: يقول شيخ الإسلام: “من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدا سواه، فتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب أو الضر، وما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عنه مقال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه”. وإن الكرب والاضطرار يعقبه النصر في أغلب الأعم كما جرت سنة الله التي لا تحابي أحدًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: (واعلمْ أن َّالنَّصرَ مع الصبرِ وأنَّ الفرَجَ مع الكَربِ وأنَّ مع العُسرِ يسرًا واعلمْ أنَّ القلمَ قد جرَى بما هو كائنٌ).
والمضطر أخي الحبيب هو المكروب المجهود، ذو الضرورة المتعبة، والحاجة المنهكة، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى التضرع إلى الله تعالى هو الذي لا حول له ولا قوة، وهو الذي قطع العلائق عما دون الله، وهو المذنب إذا استغفر وهو كل ذي حاجة أو فاقة، وهو كل من ضاقت به الأرض بما رحبت، وهو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها! وهل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده؟!
لذا لزم اللوذ به، والافتقار إليه، واللجأ إلى مناجاته، والاحتماء بكنفه الذي لا يضام، والفرار إليه، واللهج بذكره، والإلحاح بدعائه موقنين الإجابة؛ لأن عادة الله جرت أن يخلص المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء عنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه! وقد تمثلها نبي الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر حين اشتد عليه أمر المعركة؛ رفع يديه صلى الله عليه وسلم داعيا حتى سقط الرداء عن كتفيه ورؤي بياض إبطيه، وهو يلهج: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض)، ويصف ابن القيم من عمق التجربة الروحانية فيقرر: “من كمال إحسان الرَّب تعالى أن يُذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر، ويُعَرِّفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بِضِدِّها”. ويطمئنك ابن عطاء فيقول “ما طلب لك شيءٌ مثل الاضطرار، ولا أسرعَ بالمواهب مثل الذلة والافتقار”.
ثانيا: دعاء المتوكل على ربه
أخي الحر الأبي: التوكل من لوازم كمال الإيمان؛ فهو الاعتماد على الخالق دون رؤية الخلائق، فمن توكل عليه كفاه، ومن انقطع إليه أواه.. وهو القوة الدافعة للهمم، الباعثة للعزائم المجددة للأنشطة المرشدة للخير، المؤدية للظفر والنجاح. ألم تسمع قول الله لداوود “يا داود من دعاني أجبته، ومن استغاثنى أغثته، ومن استنصرني نصرته، ومن توكل عليه كفيته.. ” أليس الله بكاف عبده؟ وهذا لقمان الحكيم يرشد ابنه فيقول: “يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وشراعها التوكل على الله لعلك تنجو وما أظنك ناجيًا.” وقال داود لابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام: “يا بني إنما يستدل على تقوى الرجل بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال. وحسن الصبر فيما قد فات”. وهو طريقك للاعتصام بالله كما قال يحيى بن معاذ: يعتصم الرجل بالله: “إذا قطع قلبه عن كل علاقة موجودة أو مفقودة ورضي بالله وكيلا”.
التوكل على الله.. عبادة الصادقين، وسبيل المخلصين، وقد أمر الله تعالى به الأنبياءه المرسلين، وأولياءه المؤمنين، فقال رب العالمين: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِير}، وقال أيضًا:{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ فلا شك أن هناك فرقًا كبيرًا بين إنسان يدعو وهو قلق يخاف من الغد والمستقبل، وآخر يدعو وقد ترك أمره كله لخالقه هو الذي يتولاه ويفرج كربه ويشفي مريضه ويسد دينه لأن له ربا يتولى الأمر كله يفعل ما يشاء وكيفما شاء وفي الوقت الذي يشاء.
ثالثا دعاء الموقنين بالإجابة
أخي الحر الأبي: عبودية الدعاء من أشرف الطاعات، وتحقيقها، وجماله وتاجها في اليقين بها. فتعلموا اليقين، وادرسوا اليقين، وعيشوه كما عاشه السلف. لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي؛ لطارت القلوب اشتياقا إلى الجنة وخوفا من النار. اليقين أن لا تتهمَ مولاك في كل ما أصابك أو نزل بك ورسول الله يأمرنا في الدعاء …( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً، من قلب غافل لاهٍ) فمن اليقين حضور القلب، ويقظةَ الروح، والإقبال بصدق واشتياق والطمع في كرم الله وفضله، وو العلم بأنه لا يعجزه شيء، والتعلق برحمته فهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين والذل والإفتقار إليه يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر: 15) فهو عظيم العطايا واسع المنّ والأفضال.
فمن حقق اليقين وثق بالله في أموره كلها، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة. فلا تدعُ وأنت شاكٍّ هل يستجيب الله دعائك أو لا يستجيب!! بل ادع ربك متيقِّنًا واثقًا بأن الله يجيب دعوتك، وكن حسن الظن بالله، فلا مجال أبدًا للشك في قلب المؤمن وقد وعد بإجابة دعائنا؟!! ﴿وَقَالَ رَبُّـكـُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَـكُمْ﴾، وبشر نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن ربكم حَيِيٌّ كريم؛ يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفرًا خائبتين).
وإن كلمة السر في الدعاء: “اليأس واليقين”. اليأس من الأسباب المادية الدنيوية جميعًا، واليقين المطلق بأن ما أطلبه لا يستطيع مخلوق أن يحققه، لا يستطيع أن يحققه إلا الربُّ العظيم. فإذا كان منا اليأس المطلق منا ومن الناس جميعًا وعلمنا علم اليقين ألا يجيبه طلبنا إلا الله واتجهنا بقلوبنا إليه فإن الاستجابة نظنها متحققة بإذن الله، أخي الحر الأبي ختاما أبشرك وأقول لك ادع الله مضطرا ومتوكلا وموقنا به تنل خمسا، وأحدهما لن تخطئك فالدعاء عبادة لذاته فأنت عنه مأجور أو قضاء الحاجات أو رد البلاء أو تيسسير الأفضل مما دعوت أو ادخار ليوم القيامة عندما نكون أحوج إليها أكثر من أي وقت مضى.
اللهم يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغم وياكاشف الظلم ويا أعدل من حكم ويا حسيب من ظلم ويا أول من غير ابتداء ويا آخر بلا ابتداء اجعل لنا من أمرنا فرجا، اللهم اكشف عنا ما نزل من ضر وشر، واصرف عنا ما علمنا وما لم نعلم، واحفظنا من شر ما أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، وخلصنا خلاصا جميلا يا رب العالمين، يا مدبر كل أمر دبر لنا فإنا لا نحسن التدبير. اللهم اقذف في قلوبنا رجاءك واقطع رجاءنا عمن سواك حتى لا نرجو إلا إياك، اللهم ما ضعفت عنه قواتنا وقصرت عنه آمالنا ولم تنته إليه رغباتنا ولم تبلغه مسألتنا ولم يجر على ألسنتنا مما أعطيت أحدا من الأولين والآخرين من اليقين فخصنا به يا رب العالمين.