لم تعد أزمة بين الحكومة ونقابة المعلمين، بل تحوّلت إلى أزمة وطنية تعني الجميع وتؤثر فيهم وتنعكس ارتداداتها عليهم. والتعاطي مع هكذا أزمة يتطلّب درجة عالية من الحرص والدقة، والبعد عن الانحياز.
إدارة الأزمة حتى اللحظة مزعجة في ذاتها، ومقلقة في دلالاتها ومؤشراتها المستقبلية. فإذا لم ننجح طيلة الفترة الماضية في الخروج بسلام وبمقاربات معقولة من الأزمة، فكيف ستتولد الثقة بقدرتنا على إدارة أزمات ومواجهة تحديات أشدّ وأصعب، نواجهها حالياً أو قد تداهمنا في أي وقت؟!
الكل خاسر من استمرار الأزمة وإطالة عمرها، لكن الطلبة والمجتمع هما الخاسر الأكبر. وإذا كان طول النفس والصبر والتحمّل أمراً محموداً في كثير من المواقف والقضايا، فإنه غير محمود البتة حين يتعلٌق الأمر بأزمة وطنية يدفع ثمنها المواطنون بمجموعهم، ولا تقتصر تداعياتها وتفاعلاتها السلبية على أطراف الأزمة وحدهم.
ليس هنا يستحضر النفس الطويل وسياسة عض الأصابع، فكل يوم إضافي يمضي دون الخروج بحل مقبول لإنهاء الأزمة، يتسبب بمزيد من تعقيدها واحتقانها، ويستنزف المجتمع والمواطنين ويضغط على أعصابهم.
الأزمة دخلت مرحلة من العناد والتحدي والمغالبة وغياب الثقة لدى أطرافها، الأمر الذي زاد من تعقيدها وأدخلها حالة من الاستعصاء. فليس ثمة حلّ ودّي هادئ مرض للجميع يلوح في الأفق، وليس هناك حديث عن سقوف زمنية لإنهاء الأزمة.
أطراف الأزمة صعدت على الشجرة، وعوض البحث عن وسائل مناسبة للنزول عنها، تواصل الصعود إلى أعلى، وتجد حولها مصفقين ومشجعين ومنتفعين من استمرار الأزمة وتفاقمها.
العقلاء يتحدثون عن ضرورة التوصّل إلى حل وسط مرض بصيغة “لا غالب ولا مغلوب” يتيح الخروج من الأزمة ويجنّب المجتمع تداعياتها السلبية، ويوفّر للطرفين نزولاً آمناً عن الشجرة. والكل يتحدث عن الحاجة إلى حلول إبداعية خارج صندوق ما هو مطروح في مواقف أطراف الأزمة، يعطيها شيئا معقولاً مما تريد وليس كل ما تطلب.
لكن الكل يعجز، حتى اللحظة، عن إيجاد الحل الإبداعي والوصفة السحرية والحل الوسط الذي يقبله الطرفان ويشكل نقطة مناسبة لالتقاء المواقف المتعارضة.
الهروب من مواجهة الأزمة لا ينهيها، ورهان أي من الطرفين على عامل الوقت قد يقطع الأصابع ولا يتوقف عند عضها.
الحلول القاسية لا تحلّ الأزمة بل تسهم في تعقيدها، واستمرار استعصاء الأزمة يلحق أفدح الضرر بمصالح الوطن وينحت في صورته، والحل التوافقي الوسط يتطلب شجاعة من أطراف الأزمة وإيثاراً للصالح الوطني العام، بعيدا عن الحسابات الضيقة لأي طرف من الأطراف.
وفي كل الأحوال، ينبغي أن تظل الأزمة، بخطابها ومضمونها وأدواتها، نقابية مطلبية لقطاع محترم في المجتمع وحكومة تعلن انفتاحها على الجميع، ما يدعو إلى أن تتجنّب أطراف الأزمة حرفها عن مسارها المطلبي. فالتوظيف السياسي للأزمة من أطرافها أو من جهات أخرى، يسهم في تعقيد الأزمة ويزيد من أخطارها على الحكومة والمعلمين والمجتمع، ولا يساعد على حلها.
مصلحة الحكومة والمعلمين تقتضي حصر الأزمة في بعدها المطلبي، وتفكيكها والذهاب بها إلى الحلّ، وليس تعميق التناقض والدفع بالأزمة إلى مسارات لم يقصدها المعلمون ولم ترغبها الحكومة.
للخروج من الأزمة، لا بد من حضور العقل والحكمة والمنطق السديد، ولا بدّ من استعادة بعض الثقة المفقودة، وتجسير الفجوة بين المواقف المتباعدة، والوصول إلى نقطة في منتصف الطريق.
فهل ننجح سريعاً في الخروج من الأزمة ووقف تداعياتها الخطرة، أم نواصل سياسة الهروب والتلكؤ في التعاطي معها بشجاعة وحكمة تجنّبنا الأسوأ؟