لقد تناول الإمام البنا فريضة الحج من نواحي كثيرة سواء النواحي الفقهية أو التعبدية أو وحدة المسلمين، أو نشر دعوة الإخوان وعرضها على جموع الحجاج بعد انتهاء فريضة الحج، ولذا تنوعت كتاباته ومحاضراته حول معنى الحج الحقيقي، وهل هو أداء الفريضة فقط؟ أم هو أشمل وأعم من ذلك؟ وحاولنا الوقوف على بعض المعاني باختصار خاصة أن الإمام البنا كتب كثير من المقالات وخطب في مؤتمرات كثيرة في الحجاز بعد الانتهاء من مناسك الحج.
إلزامية الأداء
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وقد حرص الإخوان المسلمين على تشجيع المسلمين على أدائه، والاستعداد له في المستقبل إن لم يتيسر للمسلم في الوقت الحاضر، وقد حرص الإمام البنا على سلك النواحي العملية في التشجيع على أداء هذه الفريضة حيث شكل لجنة تحت مسمى لجنة الحج، والتي وضعت أطر وقوانين ومعايير لآلية الحج وتوفير النفقات لدى الأخ داخل الجماعة، بل وضعت محاذير لمن يتخلف عن الادخار لأداء هذه الفريضة.
وقد وضعت الجماعة لائحة تنظيم حج الإخوان في مؤتمر الشورى الثالث عام 1935م، وكان الجانب العملي هو أساس التشجيع، فما أن فرغت اللجنة حتى أعلن الأستاذ البنا عن نيته للسفر لأداء فريضة الحج سنة 1354هـ / 1936م فلبى دعوته على الفور مائة من الإخوان المسلمين كان منهم ثماني عشرة امرأة.
وفي ذلك يقول الأستاذ البنا:
والحج فيه أسمى معانى الجهاد وأدق تدريب عليه، فهو احتمال مشاق الأسفار ووعورة الطرق، والمران على السير فى البر والبحر، وأروع ما ترى الكتيبة الإسلامية فى الأرض المقدسة كهيئة المجاهدين يوم تراها تلقى الجمرات فترجم عدوها العتيد، وتكبر ربها المجيد فى نظام محكم فريد…(1)
ثم يؤكد الشعور الرباني الذي ينتاب الشخص الذي ينوي السفر لبيت الله الحرام، فيصف هذا الشعور بقوله:
شعور شائع: منذ عزمت على زيارة الأرض المقدسة كان يشيع فى نفسى شعور غريب قوى فعال يهز روحى هزًا قويًا، ويتأثر به قلبى تأثرًا غريبًا، ومن العواطف القوية ما لا يعرف لونه؛ فهو مزيج من الأمل، ومن الإشفاق، ومن الخوف، ومن الرجاء، ومن الحب، ومن الوله، ومن الشوق، ومن الحنين، وكذلك كان شعورى كلما تذكرت عزمى على زيارة الأرض المقدسة.
وكثيرًا ما تكون تلك العواطف المركبة أبعد أثرًا وأعمق غورًا مما يظن الناس؛ فلقد كنت أجلس إلى نفسى فأتمثل لها مكة ومقدساتها، وطيبة وأنوارها، وأصعد بها إلى الماضى البعيد؛ فتستعرض قريشًا وآثارها والدعوة الأولى وأسرارها، ثم تستمر سائرة مع تاريخ [الإسلام] الحى القوى، فإذا ساعات عظيمة وانتصارات تسمو على البشرية، وتتعالى على التاريخ نفسه، وتتحدى الأرض ومن فيها، وإذا ساعات من الضعف تثير الشجون وتستدر العيون…(2)
ويضيف قوله:
ولكنى أقول لك: إن أهم ما حدا بى إلى زيارة هذه البقعة المباركة غير ما يحدو بكثير من الناس؛ فإن أعظم ما يسير بالناس إلى هذه البقاع المطهرة الرغبة الملحة فى أداء الفريضة والزيارة المباركة رجاء الثواب أو خوفًا من التبعة يوم القيامة، أو الرغبة الملحة فى التمتع بما أفاضه الله على هذه الديار وساكنيها من بركة وخير، وذلك جميل حقًا، وذلك بعض ما حدا بى إلى الرحلة.
ثم يؤكد أن الحسرة والندامة على الناس لو تركوا وتخلوا عن أداء هذه الشعيرة وأهملوها حيث يقول: ويوشِك أن يهمل الناس أمر الحج ؛فيرفع الله بيته، ويستأثر به، وينزع البركة السابغة من أهل الأرض الذين أغفلوا نداء ربهم، وأهملوا فريضة حجهم، وهجروا سيدهم.
ومن ذلك تعلم تأكد فريضة الحج وعظيم ثواب الله لمن أداها، وشديد العقوبة لمن تركها وتكاسل عن أدائها.
لهذا أجمعت الأمة على فرضية الحج على القادر المستطيع، ثم ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وبعض أصحاب الشافعى، ومن أهل البيت زيد بن على والهادى والمؤيد بالله والناصر إلى أنه واجب على الفور؛ فمن استطاع لزمه الأداء لوقته…(3)
ويناشد ويحمس إخوانه قائلا: أيها الأخ الكريم، إن كنت ممن سمعوا هذا النداء فأجابوا الدعاء، وقدر لهم أن يكونوا فى وفد الله -تبارك وتعالى- فاعلم أنها غرة السعادة، وفاتحة الخير كله، وعنوان رضوان الله، فما دعاك إلا وهو يحبك، وما ناداك إلا ليمنحك، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم؛ فَهَنِّئ نفسك بهذا الفضل المبين، وتقبل منا تهنئة الإخوان المحبين، وسترى فى هذه الكلمات صورة موجزة من السنة المطهرة فى أداء الفريضة، فاذكرنا بصالح الدعوات فى تلك الأوقات الكريمة والأماكن المشرفة، وإن حالت دون ذلك الحوائل فصاحب الحجاج بقلبك، ورافقهم فى أداء المناسك بروحك، فإن لك مثل ثوابهم إن شاء الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد القائل لأصحابه ما معناه: إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: حبسهم العذر…(4)
موعد على عرفات
يقول عن عرفات واجتماعاته: كنت أتحدث إلى صديق عن العالمية الإسلامية؛ فكان من قولى له: إن الإسلام يدعو إلى العالمية بأسمى وأجلّ مما يدعو إليها الفلاسفة والساسة؛ إذ إنه يلزم كل مسلم أن يعمل ليعم الناسَ مبدأٌ واحد هو الحب والإخاء والعدل والمساواة تحت ظل القرآن الكريم لا تعصبًا لجنس ولا تحيزًا لشخص أو فئة.
فكان هذا القول غريبًا أمامه مستبعدًا لديه، وبدت على وجهه علائم الدهشة والاستغراب، وأخذ يتساءل فى شك: وهل ذلك ممكن؟ وهل حقيقةً يأمر الإسلام بهذا ويقرره؟.
فقلت له: يا صديقى إنك -بحمد الله- مسلم، وقد وجهت إلىَّ سؤالين: هل يدعو الإسلام إلى عالمية المبادئ السامية؟ وهل ذلك ممكن؟ فلنتفاهم فيهما واحدًا واحدًا.
فأما أن الإسلام يأمر بهذا ويدعو إليه؛ فأمر بدهى معلوم من الدين بالضرورة؛ إذ إن رسالة النبى صلى الله عليه وسلم عامة للبشر جميعًا، والله -تبارك وتعالى- يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ: 28]، والقرآن الكريم -وهو دستور الإسلام الذى لم يترك من أصوله صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها- مملوء بالآيات الواضحة البينة التى تأمر المسلمين بتعميم الدعوة فى آفاق الأرض؛ حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، وما كنت أظن أن مسلمًا يجهل ذلك وهو من أصول الإسلام وقواعده.
ثم يضيف: فى يوم عرفة يجتمع الحجيج فى وقت واحد وفى مكان واحد وفى زى واحد، وترتفع أصواتهم بدعاء واحد على قلب رجل واحد، ومن أولئك الحجيج يا صاحبى: المصرى والهندى والشامى واليمنى والعراقى والحجازى والشرقى والغربى، والمسلم الإنكليزى والفرنسى، وكل شعب من شعوب العالم وصلته دعوة الإسلام، وترددت فى أجوائه كلمة الإسلام.
ما أروع الموقف، وما أجل المغزى الذى قصد إليه فيه الإسلام وهو دين التوحيد، وما أجزل ثواب الله ورحمته وأعم فيضه ورضوانه الذى يتغشى عباده الأكرمين؛ فيعودون من موقفهم أطهارًا أبرارًا أتقياء أنقياء كيوم ولدتهم أمهاتهم…(5)
مناسك وعبادات
يصف الإمام البنا الحج بأنه دين على العبد أمام الله لابد إن توفرت له السبل من سداد هذا الدين فيقول:
قال الله تعالى: “وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ” [آل عمران: 97].
وهذا تركيب يدل على عظيم العناية بالحج وتأكُّد فرضيته، ألست ترى أن الحق -تبارك وتعالى- اعتبره دينًا له على عباده فى قوله “وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ” وألست ترى أنه -تبارك وتعالى- جعل مقابل القعود عن أدائه الكفر، وهو أشد المقت، فقال تعالى: “وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ” ولم يعهد هذا التركيب فى فريضة أخرى فى كتاب الله غير الحج تنبيهًا على عظيم قدره وجليل أهميته.
ويوضع المعاني الجلية من قوله تعالى: “وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ” [البقرة: 196] فيقول:
والمعنى أكملوا الحج والعمرة خالصين لله، وأنتم ممتثلين لأوامر الله مجيبين دعوة الله، ولعلك لاحظت هنا أيضًا فى هذه الآية أنه -تبارك وتعالى- جعل الحج والعمرة ملكًا له تأكيدًا للمعنى الأول، وتنبيهًا على مزيد العناية بهذين العملين الجليلين.
ثم يضيف:
ومعنى المتابعة بين الحج والعمرة: تكرارهما مرات لمن يستطيع ذلك حرصًا على هذه المزية -مزية التطهير من الذنوب والآثام- أو المتابعة بينهما بمعنى الجمع بينهما؛ فيحج ثم يعتمر مرة أو مرات؛ فتحصل له هذه الفضيلة، كل ذلك مندرج تحت هذا اللفظ الجامع، ومن استكثر من الخير استكثر من ثوابه…(6)
ولم يقتصر فكر الإمام البنا على الحج على كونه أداء للشعير الربانية فحسب، لكن اعتبر له منافع عدة للتعارف على إخوة مختلفين في إنحاء العالم، وأيضا التوحد على كلمة سواء أمام المخاطر فيقول في مؤتمر الشباب العربي السعودي الذي عقد له ولإخوانه بعد أداء مناسك الحج:
فإننا نعتبر من تمام مناسكنا أن نقف على مثل هذا الحفل المبارك فنتعرف إلى إخواننا ويتعرفون إلينا، وشتان ما بين موقف هوى في الله والإسلام وموقف هوى خرقاء واضعة اللثام والله خير وأبقى، وذلك ما دعاني إلى أن أدعو نفسي إلى هذا الحفل ثم إلى التكلم إليكم فيه نزولاً على ما أثارته خطاباتكم البارعة من شجن كامن في النفس وهوى لاصق بالفؤاد.
ثم قال: أيها الشباب العربي الكريم: لا تستصغروا أنفسكم، ولا تحقروا مهمتكم، فإنكم أساتذة العالم وأئمة الشعوب، وأمناء الله على هدايته العظمى للبشرية كلها، ولئن تعالت أصوات الغرب من كل جانب: ألمانيا فوق الجميع، وإيطاليا فوق الجميع، وسودي بريطانيا واحكمي، وكانت تلك كلمات اخترعوها لأنفسهم، وابتدعوها يريدون بها التهام الضعفاء والعدوان على الآمنين، فإنكم أنتم يا شباب العروبة والإسلام أحق الناس بهذه النعوت والأوصاف لا بدعة تبتدعونها ولا خدعة تستترون وراءها ولكن حقًا مقدسًا سجله الله لكم في كتابه يوم أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] لا لتستبدوا بحقوق الضعفاء ولا لتعتدوا على الآمنين ولكن كما قال الله تعالى: (تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران: 110] وثقوا يا إخواني أني حينما أخاطب شباب العروبة لا أريد للعروبة ذلك المعنى الضيق المحدود الذي يحصرها في قطر من الأقطار، ولكن أريد ذلك المعنى الفسيح الرحب الذي يضم كل شبر أرض فيه مسلم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إن العروبة لفظ إن هتفت به
فالشرق والضاد والإسلام معناه (7)
ثم يقول: فى مثل هذا الموقف، فى مكة المكرمة ومنى المطهرة، فى هذا الحرم الآمن الذى أقسم الله به فقال “لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ” [البلد: 1-2] ونزل به الوحى وانبثق منه نور النبوة وأشرق فيه شمس الرسالة، فى هذا المؤتمر الجامع الذى جمع خلاصات القلوب المؤمنة من أقطار الأرض، من المغرب الأقصى إلى إندونيسيا، من المحيط الهادى إلى المحيط الهندى.
مشاعر وخواطر كثيرة يزحم بعضها بعضًا. نحن نريد فى هذا الاجتماع الحاشد الجامع أن نلخص عواطفنا ومشاعرنا، وأن نعرفها جيدًا ونحفظها، ثم نرسم طريقًا نسير فيه جميعًا لنصل إلى الغاية المرجوة، إن شاء الله. يقول رسول الله (ص): “العلم علمان؛ علم فى القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم”…(8)