“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا” (ص : 71).
صورة الصف المسلم التي تبدو من خلال هذه الآيات توحي بهذا. توحي بوجود جماعات منوعة في داخل الصف، لم تنضج بعد; أو لم تؤمن إنما هي تنافق! وتوحي بأن الصف كان في حاجة إلى جهود ضخمة من التربية والتوجيه، ومن الاستنهاض والتشجيع، لينهض بالمهمة الضخمة الملقاة على عاتق الجماعة المسلمة; والارتفاع إلى مستوى هذه المهمة. سواء في التصورات الاعتقادية; أو في خوض المعركة مع المعسكرات المعادية.
وهذا الذي نقرره لا يطعن في الحقيقة الأخرى. حقيقة أنه كان في هذا الصف من النماذج المسلمة من استوى على القمة السامقة; وصعد المرتقى إلى هذه القمة.. ووصل.. ولكننا إنما نتحدث عن “الصف المسلم” ككل. وكبناء مختلط ولكنه غير متجانس; وهو في هذه الحالة يحتاج إلى الجهد الجاهد لتسويته وتنسيقه; مما هو ظاهر في هذه التوجيهات القرآنية الكثيرة.
والتدقيق في الملامح التي تبدو من خلال هذه التوجيهات، يجعلنا نعيش مع الجماعة المسلمة، في صورتها البشرية التي كثيرا ما ننساها! ونرى فيها مواضع الضعف ومواضع القوة. ونرى كيف كان القرآن يخوض [ ص: 702 ] المعركة مع الضعف البشري ومع رواسب الجاهلية ومع المعسكرات المعادية في وقت واحد. ونرى منهج القرآن في التربية – وهو يعمل في النفوس الحية في عالم الواقع – ونرى طرفا من الجهد الموصول الذي بذله هذا المنهج، حتى انتهى بهذه المجموعة – المختلفة الدرجات، المختلفة السمات، الملتقطة ابتداء من سفح الجاهلية – إلى ذلك التناسق والتكامل والارتفاع، الذي نشهده في أواخر أيام الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقدر ما تسمح به الفطرة البشرية كذلك! وهذا يفيدنا.. يفيدنا كثيرا..
يفيدنا في إدراك طبيعة النفس البشرية، وما تحمله من استعدادات الضعف واستعدادات القوة. متمثلة في خير الجماعات.. الجماعة التي رباها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالمنهج القرآني..
ويفيدنا في إدراك طبيعة المنهج القرآني في التربية; وكيف كان يأخذ هذه النفوس; وكيف كان يتلطف لها; وكيف كان ينسق الصف، الذي يحتوي على نماذج شتى من مستويات شتى. حيث نراه وهو يعمل في عالم الواقع.. على الطبيعة..!
ويفيدنا في أن نقيس حالنا وحال المجموعات البشرية على واقع النفس البشرية، ممثلة في تلك الجماعة المختارة.. كي لا نيأس من أنفسنا حين نطلع على مواضع الضعف، فنترك العلاج والمحاولة! وكي لا تبقى الجماعة الأولى – على كل فضلها – مجرد حلم طائر في خيالنا، لا مطمع لنا في محاولة السير على خطاها. من السفح الهابط، في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة!
وكل هذه ذخيرة، حين نخرج بها – من الحياة في ظلال القرآن – نكون قد جنينا خيرا كثيرا إن شاء الله.. إن من خلال هذه المجموعة من آيات هذا الدرس يبدو لنا أنه كان في الصف المسلم يومذاك:
“أ” من يبطئ نفسه عن الجهاد في سبيل الله، ومن يبطئ غيره. ثم يحسبها غنيمة إذا لم يخرج فسلم، على حين أصابت المسلمين مصيبة! كما يعدها خسارة إذا لم يخرج فغنم المسلمون، لأنه لم يكن له سهم في الغنيمة! وبذلك يشتري الدنيا بالآخرة!
“ب” وكان فيه من المهاجرين أنفسهم – وممن كانت تأخذهم الحماسة للقتال ودفع العدوان وهم في مكة ، مكفوفون عن القتال – من يأخذهم الجزع حينما كتب عليهم القتال في المدينة ; ويتمنى لو أن الله أمهلهم إلى أجل، ولم يكتب عليهم القتال الآن!
“ج” ومن كان يرجع الحسنة – حين تصيبه – إلى الله; ويرجع السيئة – حين تصيبه – إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – لا لشدة إيمانه بالله طبعا ولكن لتجريح القيادة والتطير بها!
“د” ومن كان يقول: طاعة، في حضرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فإذا خرج بيت هو ومن لف لفه غير الذي يقول!
“هـ” ومن كان يتناول الشائعات، فيذيع بها في الصف; محدثا بها ما يحدثه من البلبلة، قبل أن يتثبت منها، من القيادة التي يتبعها!
“و” ومن كان يشك في أن مصدر هذه الأوامر والتوجيهات كلها هو الله سبحانه. ويظن أن بعضها من عند النبي – صلى الله عليه وسلم – لا مما أوحي له به!
“ز” ومن كان يدافع عن بعض المنافقين – كما سيأتي في مطلع الدرس التالي – حتى لتنقسم الجماعة المسلمة [ ص: 703 ] في أمرهم فئتين.. مما يوحي بعدم التناسق في التصور الإيماني وفي التنظيم القيادي (من ناحية عدم فهم المجموع لوظيفة القيادة وعلاقتهم بها في مثل هذه الشؤون) ..
وقد يكون هؤلاء جميعا مجموعة واحدة من المنافقين أو مجموعتين: المنافقين. وضعاف الإيمان، الذين لم تنضج شخصيتهم الإيمانية – ولو كان بعضهم من المهاجرين .. ولكن وجود تلك المجموعة أو هاتين المجموعتين في الصف المسلم – وهو يواجه العداوات المحيطة به في المدينة من اليهود ، وفي مكة من المشركين، وفي الجزيرة العربية كلها من المتربصين.. من شأنه أن يحدث خلخلة في الصف; تحتاج إلى تربية طويلة، وإلى جهاد طويل!
ونحن نرى في هذا الدرس نماذج من هذا الجهاد، ومن هذه التربية. وعلاجا لكل خبيئة في النفس أو في الصف. في دقة، وفي عمق، وفي صبر كذلك، يتمثل في صبر النبي – صلى الله عليه وسلم – قائد هذا الصف، الذي يتولى تربيته بالمنهج القرآني:
“أ” نرى الأمر بالحذر، فلا يخرج المجاهدون المؤمنون فرادى، للسرايا أو المهام الجهادية. بل يخرجون ثبات أي سرايا أو فصائل.. أو يخرجون جميعا في جيش متكامل. لأن الأرض حولهم ملغمة! والعداوات حولهم شتى، والكمين قد يكون كامنا بينهم من المنافقين، أو ممن يؤويهم المنافقون واليهود من عيون الأعداء المتربصين!
“ب” ونرى تصويرا منفرا للمبطئين يبدو فيه سقوط الهمة; وحب المنفعة القريبة; والتلون من حال إلى حال، حسب اختلاف الأحوال! وكذلك نرى التعجيب من حال أولئك الذين كانوا شديدي التحمس في مكة للقتال، فلما كتب عليهم في المدينة عراهم الجزع.
“ج” ونرى وعد الله لمن يقاتلون في سبيل الله، بالأجر العظيم، وإحدى الحسنيين: ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ..
“د” ونرى تصوير القرآن لشرف القصد، وارتفاع الهدف، ونبل الغاية، في القتال الذي يدفعهم إليه.. في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ..
“هـ” كما نرى تصوير القرآن لأحقية الغاية التي يجاهد لها الذين آمنوا وقوة السند; إلى جانب بطلان غاية الذين كفروا وضعف سندهم فيها: الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت. فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ..
“و” ونرى معالجة المنهج القرآني للتصورات الفاسدة، التي تنشأ عنها المشاعر الفاسدة والسلوك الضعيف. وذلك بتصحيح هذه التصورات الاعتقادية.. مرة في بيان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة: قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا .. ومرة في تقرير حتمية الموت ونفاذ المقدر فيه مهما يتخذ المرء من الاحتياط، ومهما ينكل عن الجهاد: أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة ..
ومرة في تقرير حقيقة قدر الله وعمل الإنسان: وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا: هذه من عندك. قل: كل من عند الله. فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ..
“ز” ونرى القرآن يؤكد حقيقة الصلة بين الله – سبحانه – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن طاعته من [ ص: 704 ] طاعته. ويقرر أن هذا القرآن كله من عنده ويدعوهم إلى تدبر الوحدة الكاملة فيه، الدالة على وحدة مصدره: من يطع الرسول فقد أطاع الله .. أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
“ح” ثم نراه – بعد أن يصف حال المرجفين بالأنباء – يوجههم إلى الطريق الأسلم، المتفق مع قاعدة التنظيم القيادي للجماعة: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم ..
“ط” ويحذرهم من عاقبة هذا الطريق، وهو يذكرهم فضل الله عليهم في هدايتهم: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ..
ونستطيع أن ندرك مدى الخلخلة التي كانت تنشئها هذه الظواهر في الجماعة المسلمة; والتي كانت تحتاج إلى مثل هذا الجهد الموصول، المنوع الأساليب.. حين نسمع الله – سبحانه – يأمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأن يجاهد – ولو كان وحيدا – وأن يحرض المؤمنين على القتال. فيكون مسؤولا عن نفسه فحسب: والله يتولى المعركة: فقاتل في سبيل الله – لا تكلف إلا نفسك – وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا .. وفي هذا الأسلوب ما فيه من استجاشة القلوب، واستثارة الهمم; بقدر ما فيه من استجاشة الأمل في النصر، والثقة ببأس الله وقوته..
لقد كان القرآن يخوض المعركة بالجماعة المسلمة في ميادين كثيرة. وكان أولها ميدان النفس ضد الهواجس والوساوس وسوء التصور ورواسب الجاهلية، والضعف البشري – حتى ولو لم يكن صادرا عن نفاق أو انحراف – وكان يسوسها بمنهجه الرباني لتصل إلى مرتبة القوة، ثم إلى مرتبة التناسق في الصف المسلم. وهذه غاية أبعد وأطول أمدا. فالجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة، لا يغنيها هذا، إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة.. ولا بد من التناسق مع اختلاف المستويات.. وهي تواجه المعارك الكبيرة.