إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن التفاؤل من الصفات الحميدة التي كان يحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن التفاؤل من آثار حسن الظن في الله، والرجاء فيه، ولأن في التفاؤل انشراحَ لقلب الإنسان، وفيه إحسان الظن بالله، وتوقع الخير بما يسمعه من الكلم الصالح، الحسن الطيب، فقد جاء الإسلام حاثًّا على الرجاء والأمل، وداعيًا إلى التفاؤل الإيجابيّ الدافع للانطلاقة والعمل من أجل التصحيح والتطوير، بل إن اليأس والقنوط والإحباط والتشاؤم جوانبُ ليست بداخلة في نسيج التفكير الإسلامي البتة، مهما أحاطت بالمؤمن الشدائد، وادلهمت الخطوب، وغيم الجو وتلبد.
وللتفاؤل قيمة اجتماعية مميزة، إذ يرغب الناس في صحبة الشخص المتفائل أكثر من المتشائم، كما أنهم يميلون إلى سماع الأخبار والأحاديث المتفائلة أكثر من المتشائمة، بل كثيرا ما يوصي الناس بعضهم البعض بالتحلي بصفة التفاؤل والابتعاد عن التفكير التشاؤمي.
تعريف التفاؤل
ضدّ الطّيرة والجمع فئول، وتفاءلت به والفأل: أن يكون الرّجل مريضا فيسمع آخر يقول يا سالم، أو يكون طالب ضالّة فيسمع آخر يقول يا واجد فيقول تفاءلت بكذا، ويتوّجه له في ظنّه كما سمع أنّه يبرأ من مرضه أو يجد ضالّته. والفأل يكون فيما يحسن وفيما يسوء.
أما نفسيًّا فالتفاؤل هو: عن ميل أو نزوع نحو النظر إلى الجانب الأفضل للأحداث أو الأحوال، وتوقع أفضل النتائج. أو هو وجهة نظر في الحياة والتي تبقي الشخص ينظر إلى العالم كمكان إيجابي، أَو تبقي حالته الشخصية إيجابية، والتفاؤل هو النظير الفلسفي للتشاؤم.
والمتفائلون عمومًا يَعتقدون بأنّ الناس والأحداث جيدة أصلاً، وأكثر الحالات تسير في النهاية نحو الأفضل، ويعتقد بعض المتفائلين بأنّه بغض النظر عن العالم أو الحالة الخارجية، يجب على الشخص أن يختار شعور الارتياح ويستفيد إلى أبعد الحدود منه.
هذا النوع من التفاؤل لا يقول أيّ شيء حول نوعية العالم الخارجيِ؛ هو تفاؤل داخلي حول مشاعر الخاصة، وبذلك فهم يجعلون التفاؤل حالة انغلاقية، أو عملية تعمية على الإدارك.
ولكن الإسلام ينظر للتفاؤل – كما سيتبين لنا – على أنه انعكاس فكري ونفسي لحسن ظن المؤمن بربه سبحانه وتعالى، ووقود شعوري لكل طاقات الإنسان لتعمل على أشدها، لينال مبتغاه من الحياة، فإن هو فشل في تحقيق هدفه فلا يركن للخنوع واليأس، بل يعيد الكرة مرة تلو مرة، وهو يستعيض في نفسه أجر مجهوده في الآخرة.
وقد أشار علماء النفس إلى أن للتفاؤل معنى أشمل وأعم من الفأل، وهو «توقع الخير»، وأنه ميل إلى تبني وجهة نظر مفعمة بالأمل والتفكير الإيجابي في أن كل شيء سيؤول إلى الأفضل
التفاؤل يشمل الحياة كلها
إن التفاؤل له علاقة بجميع قراراتنا في حياتنا كلها، سواء في العبادة وهو أن يتفاءل العبد بأن الله لن يضيع عبادته وجهده إذا أخلص لله، أو في طلب العلم بأن الله سيرزقه العلم النافع وينفع به، وكذلك التفاؤل له علاقة في العمل أو الوظيفة أو أي نشاط آخر؛ ولذلك في مجتمعنا لو رأيت جميع الأشخاص الناجحين سواء في الدين أو الدعوة أو في التجارة أو في أي مجال ستجد عندهم جميعا قاسما مشتركا، ألا وهو التفاؤل، ويكفي بالتفاؤل حصول الأمل الذي هو من السعادة، وكما قيل: «تفاءلوا بالخير تجدوه».
مشروعية التفاؤل
وجهت العقيدةُ الإسلامية المسلمَ إلى التفاؤل، واستحبت له ذلك، وكذلك أرشدته إلى الاستخارة والاستشارة من أولي النُّهى والتجربة، وجعلت كفارةَ التطير أو التشاؤم أن يقول المرء هذا الدعاء: «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك»، ومن النصوص الدالة على مشروعية التفاؤل ما يلي:
1- مع ترادفِ صنوف البلاء على يوسف عليه السلام ثبت ولم يقنط ولم ييأس، فجاءه نصر الله وجعله على خزائن الأرض، قال تعالى: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، فالمسلم المتفائل لا يسمح لمسالك اليأس أن تتسلّل إلى نفسه أو تعشّش في زوايا قلبه.
2- وقال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
وقال سبحانه وتعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طيرة، وخيرها الفأل» قيل: يا رسول الله! وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم».، وَفِي رِوَايَة أخرى: «لا طِيَرَة، وَيُعْجِبنِي الْفَأْل: الْكَلِمَة الْحَسَنَة الْكَلِمَة الطَّيِّبَة»، وَفِي رِوَايَة: «وَأُحِبّ الْفَأْل الصَّالِح».
وعن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رجلاً قال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ قال: «الشرك بالله، والإياس من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، واليأس من روح الله».
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الفرق بين الفأل والطيرة: أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت.
قال ابن القيم: «ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية، التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم: «أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب»، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم».
مفهوم التفاؤل
الفأل كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم هو: الكلمة الطيبة، يسمعها الإنسان، ويتساءل في الطيب والخير، فالتساؤل مطلوب؛ لأنه رجا الخير وظنه، أي: أنه يظن أن يقع الخير ويرجوه، كأن يكون مثلاً مريضًا فيسمع قائلاً يقول: يا معافى! فيتفاءل أنه سيعافى ويبرأ، أو مثلاً يكون فاقدًا شيئًا فيسمع إنسانًا يقول: يا واجد! أو يا راشد! فيتفاءل أنه سيجده أو يرشد إلى ما يطلبه وهكذا، فهذا هو الفأل، وليس هذا من الطيرة؛ لأنه ليس معنى ذلك أن يجعل هذا الكلام الذي يقوله دليلاً على وقوع الشيء كما يفعله المتطير، ولكنه يرجو ويظن خيرًا بالله جل وعلا، ومن ظن بربه خيرًا فإن الله يكون عند ظنه به.
ولا نَقْصِدُ بالتَّفاؤل أن نُغْمِضَ أعيُنَنا عنِ الحقائق وعواقب الأمور، لكنَّ المقصودَ هو التفكيرُ بعين الأمل لا بعين اليَأْس، والمُتفائلُ يرضى بالماضي، خيرِه وشرِّه، ويَثِقُ بالمستقبَل، ثم يؤدِّي الواجبَ، ويَتركُ النتيجة لله سبحانه؛ قال تعالى: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
فالْفَأْلَ إذن هُوَ اسْتِحْسَان كلام يَتَضَمَّنُ نَجَاحًا أَوْ سرورا أَوْ تَسْهِيلاً، فَتَطِيبُ النَّفْسُ لِذَلِكَ وَيَقْوَى الْعَزْمُ عَند الإنسان.
ومن أجمل ما عرّف به التفاؤل أنه «الأفعال أو السلوكيات التي تجعل أفراد المجتمع يتغلبون على الصعوبات والمحن التي قد تواجههم في معيشتهم».
وَمَنْ أَمْثَلة التَّفاؤل أَن يَكُون لَه مَرِيضٌ، فَيَتَفاءل بِمَا يَسْمعه، فَيَسْمع مَن يقُول: يَا سَالِم، فَيقَع في قَلْبه رَجَاء الْشفاء بإذن الله عز و جل.
حكم الفأل الحسن
لأهمية التفاؤل في بناء الشخصية الإنسانية الفاعلة فقد دعا الإسلام إليه، فهو مستحب، وقول الكلام الحسَن من الأمور التي رغبت بها الشريعة، ويحصل بهذا الكلام الحسن عند من سمعه أنه يتفاءل به، وخاصة عند من كانت به مصيبة، ولكن دون الركون إلى تلك الكلمة، ولكن من باب حسن الظن بالله؛ ولذلك جاء في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي».
من فوائد الفأل
حسن الظن بالله عز و جل
والسبب في هذا أن الإنسان إذا رجا الخير، وظن أنه يكون على خير، فإن الله جل وعلا عند ظن عبده به؛ وليس معنى ذلك أن الفأل يكون دليلاً على وقوع القدر، لا، ولكنه رجا الخير وظن حصوله فصار مطلوبًا ومحبوبًا، وإن العبد إِذَا قَطَعَ رَجَاءَهُ وَأَمَلَهُ باللَّه تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ شَرّ لَهُ، وهو من الطِّيَرَة التي فِيهَا سُوء الظَّنّ وَتَوَقُّع الْبَلاء.
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: «الفرق بين الفأل والطّيرة أنّ الفأل من طريق حسن الظّنّ باللّه، والطّيرة لا تكون إلّا في السّوء فلذلك كرهت».
يجلب السعادة إلى النفس والقلب
لأن التفاؤل تنشرح له النفوس وتسر له القلوب، فهو من أسباب سعادة الإنسان وزوال الهم عنه، ولذلك فإن التفاؤل من أهم أسباب الصحة النفسية والبدنية.
ترويحٌ للمؤمن، وسرورٌ له
وقد جَعَلَ اللَّه تعالى فِي فطَر النَّاس مَحَبَّة الْكَلِمَة الطَّيِّبَة وَالأُنْس بِهَا، كَمَا جَعَلَ فِيهِمْ الارْتِيَاح بِالْمَنْظَرِ الأَنِيق وَالْمَاء الصَّافِي وَإِنْ كَانَ لا يَمْلِكهُ وَلا يَشْرَبهُ، كما جاء في وصف بقرة بني إسرائيل أنها تسرّ الناظرين، فهي تسرّ مَن نظر إليها وإن لم يملكها.
في الفأل تقويةٌ للعزائم، ومعونةٌ على الظفر
وباعثٌ على الجد، فالإسلام رغبنا في التفاؤل؛ لأنه يشحذ الهمم للعمل، وبه يحصل الأمل الذي هو أكبر أسباب النجاح، وهذا من أسرار هذه الشريعة أنها توفر للمسلم أسباب النجاح؛ ولذلك نرى الطالب الذي يذهب للامتحان أو لمناقشة رسالة جامعية وهو عنده حسن ظن بربه تجد همته قوية، وينعكس ذلك على تقويمه ونجاحه، وعكس ذلك من دخل متشائما فسيفشل بلا شك ولو كان يعرف الإجابة معرفة جيدة.
أن تأثير التفاؤل يشمل الفرد والمجتمع
ولا يقتصر على جانب من جوانب الحياة بل يطال جميعها، فالتفاؤل على سبيل المثال عاملٌ رئيس في قرارات الاستثمار الاقتصادية، ولذلك فإن الاقتصاديين يضعون في حساباتهم عندما يقيسون نشاط أي مجتمع واتجاهات الاستثمار فيه، مقدار التفاؤل لدى الناس؛ لأن ذلك يحدد السلوكيات الإنفاقية للأفراد والمجتمع.
أن التفاؤل له علاقة بجميع قراراتنا في حياتنا كلها
سواء في العبادة وهو أن يتفاءل العبد بأن الله لن يضيع عبادته وجهده إذا أخلص لله، أو في طلب العلم بأن الله سيرزقه العلم النافع وينفع به، وكذلك التفاؤل له علاقة في العمل أو الوظيفة أو أي نشاط آخر؛ ولذلك في مجتمعنا لو رأيت جميع الأشخاص الناجحين سواء في الدين أو الدعوة أو في التجارة أو في أي مجال ستجد عندهم جميعا قاسما مشتركا، ألا وهو التفاؤل، ويكفي بالتفاؤل حصول الأمل الذي هو من السعادة، وكما قيل: «تفاءلوا بالخير تجدوه».
التفاؤل علاج بدنيلقد ثبت في البحوث الطبية أن الهم والقلق يسبب نقص المناعة، وبالتالي يضعف الجسم عن مقاومة الأمراض ويبدأ الجسم تدريجيًا في الضعف والذبول حتى يصل إلى مرحلة خطيرة: «أوضحت الدراسات في المجلة الطبية أن الاضطرابات النفسية الحادة ترتبط بالمناعة الخلوية في الإنسان».
وقد تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من الهم كما جاء عند البخاري فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن».
ويقول جون جوزيف: «إن قرحة المعدة لا تأتي مما تأكل ولكنها تأتي مما يأكلك»، يعني القلق والهموم وتوتر العواطف والخوف.
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم ببث روح التفاؤل في الأمة
كان التفاؤل من هدي الرسول، وقد ترجمه صلى الله عليه وسلم واقعًا في حياته، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا توقفه عن سيره إلى غايته ومقصوده نازلةٌ مهما عظمت، ولا شدةٌ مهما كبرت، هكذا كان صلى الله عليه وسلم في جميع مراحله، والمتأمّل في سيرة النبي يجد تأكيده الأكيد والحرص الشديد على التبشير في موضع الخوف وبسط الأمل في موضع اليأس والقنوط؛ حتى لا تُصاب النفوس بالإحباط، ومن مواقفه المأثورة في هذا الباب ما يلي:
في مكة
قال خباب بن الأرت رضي الله عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردَه، وهو في ظلّ الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟! فقعد وهو محمرّ وجهُه، فقال: «لقد كان من قبلكم ليمشَط بمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشَقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه».
في الهجرة
خرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه مطاردين أحاطت بهما المخاوف من كل صوب، ومع ذلك قال لصاحبه صلى الله عليه وسلم: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾. فصدق الله رسوله: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وعندما كان هو وصاحبه والعرب قاطبة تطاردهما ليظفر كل منهم بمائة من الإبل رصدها كفار قريش، إذ بهما وقد أدركهما أحد الذين أوشكوا أن يستلموا الجائزة، فيقول له صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت المدلهم وعند هذه الصعوبة وعند هذه الشدة التي تهتز عندها النفوس: «كيف بك – يا سراقة – إذا لبست سواري كسرى؟!».
يوم الأحزاب
أحاط به خصومه وأعداؤه إحاطة السوار بالمعصم، فبشر أصحابه بفتح الشام وفارس واليمن، وفي قلب هذه المحنة وشدة هذا الهول يقول: «إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله»، وصدق المؤمنون بهذه البشارات؛ أما المنافقون فقال قائلهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾.
مواقف أخرى لم يغب فيها التفاؤل
1- وفِي حَدِيث أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ يُعْجِبهُ أَنْ يَسْمَع: يَا نَجِيح! يَا رَاشِد!
2- وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ عَامِلاً يَسْأَل عَنْ اِسْمه، فَإِذَا أَعْجَبَهُ فَرِحَ بِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اِسْمه رُئِيَ كَرَاهَة ذَلِكَ فِي وَجْهه.
3- وَكان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يستبشر بالخير عند سماع الأسماء، كما في يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عندما طَلَعَ سُهَيْلُ بْنُ عُمَرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سُهِّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ»، فَكَانَ لاكَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم.
4- بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم من تفاؤله بالأسماء الحسنة غيَّر بعض أسماء الرجال أو النساء لقبح أسمائهم، وأبدلهم بأسماء جديدة، كما رأى راعيًا لإبل فقال: «لمن هذه؟» فقيل: لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: «سلمتَ إن شاء الله». وقد غير اسم إحدى الصحابيات من عاصيةٍ إلى جميلةٍ، وغير اسم الصحابي حزَن إلى سهْل، واسم رجل يدعى: أصرم إلى زرعة.
حاجتنا إلى التفاؤل أمةً وأفرادًا
الحياة تتقلّب صفحاتها بين خير وشدّة وسرور وحزن، وتموج بأهلها من حال إلى حال؛ بسطٌ وقبض، سراء وضراء، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.
وفي الحياة مصائب ومحن وابتلاءات، قال عز و جل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
وفي الأمة اليوم حالة مُرعبة من قلب المآسي، تصدُّعُ وحدتها، تفرُّق كلمتها، اشتداد البأس وألوان البلاء من قتلٍ وتشريد مع فشوّ الجهل، ولما أصابها من نكبة الذلّ والهوان وتكالب الأعداء. وفي الأمة انتشار الفساد والتحلّل بين أبنائها بصنو الإغواء والإغراء.
أحداث الحياة وشدائدُ الأحداث وأحوال الأمة قد تورث المرءَ لونا من اليأس والقنوط الذي هو قاتلٌ للرجال ومثبِّط للعزائم ومحطّم للآمال ومزلزل للشعور. وفي أوقات الأزمات تعظم الحاجة لاستحضار التفاؤل، ومن قلب رحِمِ الفتنة يوم الخندق ينطلق صوت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالتفاؤل، فيقول: «والذي نفسي بيده، ليفرّجنّ الله عنكم ما ترون من شدّة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليّ مفاتيح الكعبة، وليهلكنّ الله كسرى وقيصر، ولتُنفقُنّ كنوزهما في سبيل الله».
ونحن اليومَ ومع شدّة الكرب وعِظَم الخَطب أحوجُ ما نكون إلى بثّ روح التفاؤل والاستبشار والإيجابية، حيث تتابعت صنوفُ الإحباطات واليأس عند كثيرٍ من الناس، حتى نسُوا أو تناسَوا في خضمِّ الآلام فلولَ البشائر والآمال.
من مظاهر التفاؤل
بالإضافة إلى ما سبق من صور التفاؤل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، نذكر هنا أمثلة من التفاؤل المطلوب ومنها: توقّع الشفاء عند المرض، والنجاح عند الفشل، والنصر عند الهزيمة، وتوقُّعُ تفريج الكروب ودفع المصائب والنوازل عند وقوعها، فالتفاؤل في هذه المواقف يولّد أفكارَ ومشاعر الرضا والتحمّل والأمل والثقة، ويبعد أفكار ومشاعر اليأس والانهزامية والعجز.
التفاؤل الإيجابي في حياة سلفنا الصالح
§ التفاؤل الإيجابي الذي جعل صحابيا كعمير بن الحُمام رضي الله عنه يلقي التّمرات من يديه ويسارع إلى جنّة عرضها كعرض السموات والأرض ويغمس نفسه في العدو، قال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله عرضها السماوات والأرض بخ بخ، لا والله يا رسول الله لا بد أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها» فأخرج تميرات فجعل يأكل ثم قال لئن حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل.
§ التفاؤل الإيجابي الذي جعل صحابيا كأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قد تجاوز التسعين من عمره ينفر في سبيل الله مستشهدا بقول الله: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً﴾، ويدفن على أسوار القسطنطينية.
التفاؤل الإيجابي الذي جعل صحابيا أعرج كعمرو بن الجموح رضي الله عنه يقاتل في أحد ويقول: والله، إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، فقد كان عمرو أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنون شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى أحد، قال له بنوه: إن الله عز و جل قد جعل لك رخصة فلو قعدت فنحن نكفيك، فقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعون أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد» وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه لعل الله يرزقه الشهادة» فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدا.
أساس التفاؤل
ولوصول المرء إلى هذه الوضعية المنتجة، القادرة على الانطلاق بإصرار وعزم نحو المستقبل، فإن عليه- الثقة الإيمان بالله والرضا بقضائه:1-
وغذاؤه علمُ المؤمن أنّه لن يصيبَه إلا ما كتبه الله له؛ فهو سبحانه الذي يملك كلَّ شيء، فلا يستبطئ الرزق، ولا يستعجل النجاة، ولا يقلق على حال الأمة. يتفاءَل حتى لو نزلت به مصيبة أو دهمه مرض أو فقر أو فقد ولدًا أو زوجة. يتفاءل مع العمل على دفع ما يقدر من بلاء أو تخفيف ما نزل بأمته من ضرّ، ثمّ يطمع في ثواب الصبر وتحمّل المشاقّ. نتفاءل لأنّ في كلّ محنة منحةً، ولا تخلو مصيبة من غنيمة، تقول أمّ السائب: الحمّى لا بارك الله فيها، فينهاها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّي الحمّى»؛ فلها فوائد: تهذّب النفس وتغفر الذنوب، تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة».
– التعرف على الله عز و جل: 2-
ومدلول أسمائه وصفاته حق المعرفة؛ حتى نتمكن – واقعًا وسلوكًا لا مجرد دعوى – من إحسان الظن به سبحانه وتعالى، والاطمئنان إلى تحقق لتعرف على الله
– قراءة التاريخ والسير:3-
وأن نقرأ في تاريخ البشرية الطويل، ونطالع سِيَر الأنبياء والمصلحين، والذين كانوا يتحسسون في الدجى مفاتيح الفرج وسط أكوام القش، ويثابرون في البحث عنها؛ حتى يكرمهم الله سبحانه وتعالى.
وأن نتعرف على نفوسنا الأمَّارة بالسوء:4-
داعية الشر، ومركبة الجهل والظلم، فنجاهدها، ونعيد بناء حياتنا بصورة تمكننا من استثمار طاقاتنا، وتركيزها في جانب يبقينا في دائرة الأهم ويجنبنا ما دونها؛ من مشتتات النفس، ومبعثرات الجهد والوقت، وملهيات المرء عن القيام بالأعمال الأكثر إلحاحًا وضرورة.
– الواقعية والبعد عن المثالية: 5-
وأن نبتعد عن الأطروحات المثالية غير القابلة للتنفيذ بمفردها، أو بمجموعة الجوانب التي تتكامل معها في دنيا الواقع، وننتقل للعيش في بيئة نقوم فيها بعمل أفضل ما يمكننا تنفيذه.
– أن نتقي أحاديث اليائسين ومرافقة المحبَطين:6-
فهم زراع الهزيمة، ومطيلي فترة الانكسار وأمد التخلف، ونستعيض عن ذلك بأسر نفسنا في محيط أهل المبادرة، ودائرة أهل الإنجاز والعمل: وجه الأمة المشرق، وطليعتها المباركة نحو الإصلاح والتغيير.
– عدم التدني بالنفس: 7-
بأن نتجنب رسم صورة دونية لقدرات نفوسنا وأمتنا، وندع التركيز على عوامل ضعفها والغفلة عن عوامل قوتنا من جهة، ولا نغرق في تضخيم المصائب والخضوع لها.
التفاؤل إيجابية:8-
إن التفاؤل الذي نتحدّث عنه هو الذي يولّد الهمّة، ويبعث العزيمةَ، ويجدّد النشاط، فالمسلم المتفائل متوكّل على الله، أكثر الناس نشاطًا، أقواهم أثرًا، كلّ عسير عليه يسير، وكلّ شدّة فرجُها آتٍ وقريب، المسلم المتفائل دائمًا يتوقّع الخير، يبتسم للحياة، يحسن الظنَّ بالله، والله عز و جل بيده مقادير الأمور، وهو سبحانه وتعالى سيكشف الضرَّ الذي نزل بالأمّة، وسيجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا، وبعد الحزن سرورًا، يرجو رحمة الله جل جلاله، ويتعلّق بحبل الله المتين، وتلك ثمرة الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أفضل العبادة حسن الظن بالله»، وفي لفظ «إن حسن الظن بالله من حسن عبادة الله».