صادف حضوري معرض منتدى الأعمال الدولي “IBF” في مدينة سراييفو، الشهر
الجاري، مناسبة مرور 14 عاما على وفاة أول رئيس للبوسنة والهرسك، وأحد أهم
الشخصيات في التاريخ الحديث، القائد الحكيم والعالم الكبير علي عزت
بيجوفيتش.
ولد بيجوفيتش عام 1925 وتوفي في 2003، وقاد شعب البوسنة خلال الحرب التي
بدأت مع إعلان البوسنة والهرسك استقلالها عن يوغوسلافيا 1992، وانتهت
بتوقيع اتفاقية “دايتون” للسلام مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 1995.
** جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية (1945-1992)
بعد تحرير يوغوسلافيا من الاحتلال الألماني عام 1945، أُعلن في نفس السنة
قيام اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الشعبية، وأصبحت يوغوسلافيا السابقة
دولة شيوعية تحت زعامة جوزيف بروز تيتو، الذي حكم البلاد إلى حين وفاته سنة
1980. كان هذا الاتحاد يضم كل من صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة
والهرسك والجبل الأسود وجمهورية مقدونيا.
** تفكيك يوغوسلافيا في عام 1990
أجريت أول انتخابات حرة في جمهوريتي كرواتيا وسلوفينيا منذ الحرب العالمية
الثانية (1939-1945)، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وتزايد الأصوات
المنادية بفك الاتحاد، أعلنت الدولتان بجانب مقدونيا الاستقلال عام 1991،
وتم الاعتراف بهذا الاستقلال مباشرة.
لكن الدول الأوروبية، التي سارعت إلى قبول استقلال كرواتيا وسلوفينيا، طلبت
من البوسنة والهرسك إجراء استفتاء شعبي ثم آخر قبل الاعلان عن الاستقلال.
في كلتا المرتين جاءت نسبة التصويت بنعم للاستقلال بنسبة تزيد على 90%، فأعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عام 1992.
لم يكن طلب الدول الأوروبية من المسلمين البوشناق إجراء الاستفتاء مرتين
سوى تكتيك لكسب الوقت، لحين قيام الجيش الاتحادي المؤلف من الصرب بشكل
أساسي بتنظيم نفسه والاستعداد لحروب طاحنة طويلة الأمد.
**حرب تطهير عرقي ضد مسلمي البوسنة في أبريل/نيسان 1992
شنت الميليشيات الصربية حملة عسكرية واسعة للسيطرة على البوسنة والهرسك،
وركزت هجماتها على المناطق المتاخمة للحدود، وفي محاولة لصد العدوان عنهم،
نظم مسلمو البوسنة مجاميع مسلحة تتألف في أغلبها من القرويين المسلحين
تسليحا بسيطا عماده بنادق الصيد.
في بداية الحرب، وقف الكروات على الحياد دون أن ينحازوا للصرب أو البوشناق،
لكن حيادهم لم يدم طويلا؛ إذ سرعان ما أعلنوا الحرب على البوشناق المسلمين
ليضعوهم بين فكي كماشة، محاصرين من الجهتين.
عندما بدا سقوط سربرينيتشا وشيكا، بادر وجهاء المسلمين في المدينة إلى فتح
قنوات اتصال بقيادة صرب البوسنة لإخلاء المدينة مقابل حماية المدنيين.
واتفق الطرفان على تسليم المسلمين أسلحتهم وإخلاء المدينة من المقاتلين خلال 24 ساعة.
** مجزرة سربرينيتشا
سربرنيتسا “مدينة الفضة”، تقع في أقصى شرق البوسنة، لجأ إليها الآلاف من
المسلمين البوشناق الهاربين من بطش الصرب في المدن الأخرى، وبسبب ذلك تضاعف
عدد سكان المدينة من 7 آلاف شخص إلى 30 ألفا، عانى لاجئوها الجوع والبرد
القارس، كما تعرضوا لاعتداءات متكررة من القوات الصربية أحدها أسفر عن مقتل
74 طفل كانوا يلعبون في باحة مدرسة.
وعلى إثر ذلك في ربيع 1993 ولكونها منطقة تأوي لاجئين أُعلنت سربرنيتسا،
منطقة آمنة منزوعة السلاح تحت حماية الأمم المتحدة، وقد أظهر شريط فيديو،
بثته “بي بي سي” ضمن فيلم وثائقي طويل باسم “موت يوغسلافيا”، الجنرال
الفرنسي موريلون من قوات الأمم المتحدة وهو يمنح عبر مكبر الصوت وعودًا
بضمان أمن وحماية سكان المدينة.
بعد تلك الوعود، اعتبر الصرب أن الأمم المتحدة منحازة إلى جوار المسلمين،
وبعد مفاوضات، توصلت الأمم المتحدة إلى اتفاق يقضي بنزع أسلحة المقاتلين
المسلمين في سربرنيتسا، ونفذت قوات الأمم المتحدة ذلك الاتفاق، بزعم أنهم
المسؤولون عن حماية المدينة ويريدون تهدئة التوتر بين القوات المسلمة وقوات
الصرب.
في بداية يوليو/تموز 1995، بدأت القوات الصربية الهجوم على المدينة، وتمكنت
من دخولها في 11 من الشهر ذاته، ولعلمهم بالمجازر التي ارتكبتها المليشيات
الصربية في مناطق أخرى قريبة، انقسم سكان المدينة إلى فريقين: الذين لجأوا
إلى مقر الأمم المتحدة في بوتوتشاري طلبًا لحمايتها وليعلنوا أنهم مدنيون
غير مسلّحين.
أما الفريق الثاني فغالبيته من الذين رفضوا تسليم أسلحتهم سابقًا للأمم
المتحدة اختار الخروج عبر الغابات المحيطة بسربرنيتسا وصولاً إلى أقرب
مدينة يسيطر عليها الجيش المسلم وهي توزلا، وتبلغ مسافة الطريق نحو 100 كم.
الذين لجأوا لقوات الأمم المتحدة طلبًا للحماية، كان عددهم بين عشرين وخمسة
وعشرين ألف مسلم من رجال ونساء وأطفال، لكن القوات الهولندية التابعة
للأمم المتحدة استقبلت خمسة آلاف داخل مقرها وطردت الباقين الذين تجمعوا في
مصنع للبطاريات أمام المقرّ، وجاء القائد العسكري لصرب البوسنة راتكو
ملاديتش وجلس في اجتماع مع الكولونيل المسؤول هناك كاريمانس.
وفي اليوم الثاني تجول ملاديتش في أنحاء البلدة أمام وسائل الإعلام تصوّره
وهو يخاطب المدنيين المجتمعين “لا تهلعوا، واسمحوا للنساء والأطفال بالمرور
للخروج من المدينة، لن يتعرض أحد لكم بأذى”، وتعالت صيحات المدنيين بعدها:
“شكرًا لكم”!.
ولكن ما حدث بعد أن ذهبت كاميرات الصحفيين مختلف تمامًا، يروي هورم سوليتش:
“كنت وزوجتي وأطفالي في هذا المكان، ذهبت زوجتي ولم يسمح لنا الرجال
بالخروج، قيل لنا إننا سنستخدم للمبادلة بأسرى صرب، لكن الذي حدث أنه تم
اقتيادنا إلى رحلات الموت”.
وتقول إحدى الناجيات أيضًا: “كان رهيبًا الانتظار تلك الليلة، هم (تقصد
القوات الصربية) كانوا يجمعون الرجال النائمين، يأخذونهم إلى الخارج، يسود
الصمت قليلاً، ثم نسمع صوت نباح الكلاب، ثم صوت إطلاق النار، ويتكرر
الأمر”.
ولم تحرك قوات الأمم المتحدة ساكنًا أمام قيام القوات الصربية بفصل الرجال عن النساء والأطفال تمهيدًا لإعدامهم.
وفيما بعد، شوهد ملاديتش وكاريمانس يتصافحان ويقرعان كأسيهما ويقدم ملاديتش
هدية له، وكذلك شوهد الجنود الهولنديون يحتفلون بعد خروجهم من سربرنيتسا،
وحين بدأت التقارير ترد عن حدوث مجزرة لم يصرّح المبعوث الأممي إلى البوسنة
ياسوشي أكاشي بشيء، بينما وصف الكولونيل كاريمانس هجوم الصرب على
سربرنيتسا بـ”العملية العسكرية المخطّط لها بشكل ممتاز”!.
بعد سنوات أكدت محكمة استئناف هولندية أن أمستردام مسؤولة جزئيًا عن مقتل
نحو 300 رجل مسلم طردوا من قاعدة هولندية تابعة للأمم المتحدة بعد أن
اجتاحت قوات صرب البوسنة منطقة سربرنيتشا المحيطة بالقاعدة.
ويؤيد قرار محكمة الاستئناف في لاهاي قرار صدر عام 2014 بأن قوات حفظ
السلام الهولندية كان بوسعها إدراك أن الرجال الذين لجأوا إلى القاعدة في
قرية بوتوتشاري سيتعرضون للقتل إذا أجبرتهم على الرحيل وهو ما حدث بالفعل.
اعتبرت المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا مجزرة سربرينيتشا “إبادة عرقية”،
لكنَّها رفضت عام 2006 تحميل المسؤولية للدولة الصربية مكتفية باتهامها
بالتراخي في منع الإبادة، وفي المقابل، أدانت المحكمة زعيميْ صرب البوسنة
رادوفان كراديتش وراتكو ملاديتش بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية.
** اتفاقية دايتون
“إن اتفاقًا غير منصف خير من استمرار الحرب”، بهذه الكلمات وصف الرئيس
البوسني الراحل، عزت بيجوفيتش، اتفاقية “دايتون” التي توصلت لها الأطراف
المشاركة بالحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة.
بدأت المفاوضات التي أنهت ثلاث سنوات من الحرب الأهلية في الأول من نوفمبر/
تشرين الثاني عام 1995، في قاعدة “رايت بيترسن” الجوية، قرب مدينة دايتون
الأمريكية، وحضرها ممثلون عن أطراف الصراع الرئيسية، من صربيا وكرواتيا
والبوسنة والهرسك.
دفع الأمريكيون والروس وبعض الأطراف الأوروبية الأطراف المتصارعة إلى عقد
مفاوضات سلام، انتهت بتوقيع اتفاق قضى بتقسيم البلاد إلى دولتين: الأولى
وهي فيدرالية البوسنة والهرسك، وتضم المسلمين بالإضافة إلى كروات الصرب،
وهي تحت وصاية دولية، والثانية هي جمهورية صرب البوسنة، بينما قضت محكمة
التحكيم الدولية بأن تكون منطقة “بركو” الحدودية بين البوسنة وكرواتيا
وصربيا، ملكًا مشتركًا يتمتع بحكم ذاتي.
هذا التقسيم منح الصرب مساحة حكم شملت 49% من مساحة البلاد، فيما كانت 51%
المتبقية تحت حكم مشترك ثلاثي، بين الصرب مرة أخرى، والكروات، والبوشناق
(المسلمين). المجلس الثلاثي هذا يضم ثلاثة رؤساء يمثلون مكوناته، ويتولى كل
منهم رئاسة البلاد مرتين لمدة ثمانية أشهر، خلال فترة ولاية المجلس
الممتدة إلى أربع سنوات.
ولعل أفضل ما نصت عليه الاتفاقية هو محاسبة المتورطين في جرائم حرب ضد
الإنسانية، وبعد تكليف المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا بهذا الملف،
تمكنت المحكمة من إيقاف عدد من زعماء الحرب الصرب في البوسنة، بمن فيهم
الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، الذي مات في زنزانته عام 2006.
وبالرغم من أن الاتفاقية وُقعت رسميًا في 14 ديسمبر/كانون الأول 1995 في
باريس، إلا أنها حافظت على اسم المدينة الأمريكية التي جرت فيها المفاوضات،
والتي قادها دبلوماسيون أمريكيون.
** خاتمة
لا شك أن الحديث عن مأساة البوسنة ومذبحة سربرنيتشا، يذهب بنا إلى حوادث
مشابهة وقعت ولا تزال في المدن السورية والعراقية، حلب وحمص وبانياس وإدلب
والموصل وغيرها، بأشكال وأساليب مختلفة.
لكن المشهد الأشد بؤسا أن تنتهي الحروب في سوريا وليبيا والعراق واليمن،
على شاكلة دايتون أو أكثر إجحافا، بمكافأة الذين مارسوا القتل والتدمير
والمجازر ببقائهم في السلطة، بحجة التجاذبات الدولية، وعجز الأمم المتحدة.
خلال التجوال في أرجاء البوسنة والهرسك، رأيت المقابر الكبيرة، وآثار الحرب
المدمرة، ورأيت مقابلها إرادة الحياة، وقابلية العيش المشترك بين شعوب لا
تزال تحمل في مخيلتها كابوس الحرب المدمرة.
رأيت البوسنة والهرسك، تنفض عن كاهلها غبار الدمار، وتنهض من جديد، لتعود
كما كان يحلم رئيسها الراحل بيجوفيتش، “عنواناً للإخاء والترابط والتسامح
بين الشعوب”.
تتكرر قصة ابني آدم، بين حامل غصن الزيتون الذي يتناسى جروحه من أجل السلام
والعيش المشترك، ونافخ الكير الذي ينفخ نار الفتنة في أرجاء المعمورة من
أجل برميل نفط وزيادة رصيد، وبينهما يسير قطار التاريخ بحمله الثقيل، وعند
الله تجتمع الخصوم.