الجهاد الذي زرعه الإمام البنا في نفوس اتباعه أيقظ فيهم الروح، وينظر الناس في الدعوات إلى مظاهرها العملية وألوانها الشكلية، ويهملون كثيرا النظر إلى الدوافع النفسية والإلهامات الروحية التي هي في الحقيقة مدد الدعوات وغذاؤها وعليها يتوقف انتصارها ونماؤها. وتلك حقيقة لا يجادل فيها إلا البعيد عن دراسة الدعوات وتعرف أسرارها، إن من وراء المظاهر جميعا في كل دعوة روحا دافعة، وقوة باطنة تسيرها وتهيمن عليها وتدفع إليها، ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
ولهذا أستطيع أن أقول إن أول ما نهتم له في دعوتنا، وأهم ما نعول علية في نمائها وظهورها وانتشارها هذه اليقظة الروحية المرتجلة. فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح، حياة القلوب، صحوة حقيقية في الوجدان والمشاعر، وليس يعنينا أن نتكلم عما نريد بهذه الدعوة من فروع الإصلاح في النواحي العملية المختلفة بقدر ما يعنينا أن نركز في النفوس هذه الفكرة.
نحن نريد نفوسًا حية قوية فتية، قلوبًا جديدة خفاقة، مشاعر غيورة ملتهبة متأججة، أرواحًا طموحة متطلعة متوثبة، تتخيل مثلًا عليًا، وأهدافًا سامية لتسمو نحوها وتتطلع إليها ثم تصل إليها، ولابد من أن تحدد هذه الأهداف والمثل، ولابد من أن تحصر هذه العواطف والمشاعر، ولابد من أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلًا ولا تحتمل شكًا ولا ريبًا.
وبغير هذا التحديد والتركيز سيكون مثل هذا الصحوة مثل الشعاع التائه في البيداء لا ضوء له ولا حرارة فيه، فما حدود الأهداف وما منتهاها؟!
إننا نتحرى بدعوتنا نهج الدعوة الأولي ونحاول أن تكون هذه الدعوة الحديثة صدي حقيقيًا لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها رسول الله r في بطحاء مكة قبل ألف ومئات من السنين، فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة، الزاهي بجلال الوحي، لنقف بين يدي الأستاذ الأول وهو سيد المربين وفخر المرسلين الهادين، لنتلقى عنه الإصلاح من جديد، وندرس خطوات الدعوة من جديد.
أي نور من وهج الشموس الربانية أشعله النبي الكريم في قلوب صحابته فأشرقت وأضاءت بعد ظلمة و ديجور؟ وأي ماء من فيض الحياة الروحية أفاضه عليها فاهتزت وربت ونمت فيها الأزاهير وأورقت بالوجدانيات والمشاعر وترعرعت فيها العواطف والضمائر؟!
إن النبي r قذف في قلوب صحابته بهذه المشاعر الثلاثة فأشرقت بها وانطبعت عليها:
( أ ) قذف في قلوبهم أن ما جاء به هو الحق وما عداه الباطل وأن رسالته خير الرسالات، ونهجه أفضل المناهج، وشريعته أكمل النظم التي تتحقق بها سعادة الناس أجمعين، وتلا عليهم من كتاب الله ما يزيد هذا المعني ثباتًا في النفس وتمسكًا في القلب:
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ) (الزخرف:43-44)، (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل:79)، (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثـية:18)، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65).
فآمنوا بهذا واعتقدوه وصدروا عنه.
( ب ) وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا أهل الحق وما داموا حملة رسالة النور وغيرهم يتخبط في الظلام، وما دام بين يديهم هدى السماء لإرشاد الأرض فهم إذن يجب أن يكونوا أساتذة الناس وان يقعدوا من غيرهم مقعد الأستاذ من تلميذه: يجنوا عليه ويرشده ويقومه ويسدده ويقوده إلى الخير ويهديه سواء السبيل.
وجاء القرآن الكريم يثبت هذا المعني ويزيده كذلك وضوحًا، وصاروا يتلقون عن نبيهم من وحي السماء:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران:110)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة:143), (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78).
فآمنوا بهذا أيضًا واعتقدوه وصدروا عنه.
( ج ) وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا كذلك مؤمنين بهذا الحق معتزين بانتسابهم إليه، فإن الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم ويمدهم إذا تخلي عنهم الناس، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النصير وهو معهم أينما كانوا. وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تنزل عليهم المدد من جند السماء وأخذوا يقرءون هذه المعاني السامية واضحة في كتاب الله:
(إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128)، (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105)، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:40)، (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21)، (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)، (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (لأنفال:12)، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم:47)، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ) (القصص:5).
قرءوا هذا وفقهوه جيدًا فآمنوا به واعتقدوه وصدروا عنه.
وبهذه المشاعر الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة والاعتزاز باعتناقها والأمل في تأييد الله إياها، أحياها الراعي الأول في قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله، وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم، بادية في أخلاقهم وأعمالهم معتدين بتكريم الله إياهم واثقين بنصره وتأييده، فدانت لهم الأرض وفرضوا علي الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، وبدلوا فيها سيئات المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
إلى هذه المشاعر الثلاثة ندعو الناس أولًا
أيها الناس، قبل أن نتحدث إليكم في هذه الدعوة عن الصلاة والصوم وعن القضاء والحكم وعن العادات والعبادات وعن النظم وعن المعاملات، نتحدث إليكم عن القلب الحي والروح الحي والنفس الشاعرة والوجدان اليقظ والإيمان العميق بهذه الأركان الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة والاعتزاز باعتناقها والأمل في تأييد الله إياها، فهل أنتم مؤمنون؟.