لم أكن أدرك – يوم رأيته للمرة الأولى في قرية نائية من قرى مركز إسنا، محافظة قنا، في أعلى الصعيد، تسكنها قبائل عرب المطاعنة التي أنتمى إليها – شيئًا مهمًّا عن السياسة والكفاح ومساوئ الاستعمار والاحتلال الإنجليزى وجبروته، والهجمة الشرسة على الإسلام دينًا، فى القاهرة والمدن الكبرى، وحبائل جمعيات التبشير، وأجهزة الإعلام الأجنبية، وفيض الكتب والنشرات التى توزعها مؤسسات تتخفى وراء العلاج والتعليم، وتوزع مع العلم والصحة الإلحاد والزيغ، وفتنة المسلمين عن دينهم.
ولكني أيضًا، لم أكن بعيدًا عن ذلك، فقد كنت من نابهى الأطفال الذين يترددون على كتاب القرية، والمدرسة الإلزامية، وموقوفًا عليهما، لا عمل لي غير القراءة والمذاكرة وحفظ القرآن الكريم، على حين أن جل لداتى يساعدون أهليهم فى الزراعة ومتطلبات العيش، وكان علىَّ فى لحظات الفراغ أن أقرأ للناس – وهم أميون فى جملتهم – صحيفة الأهرام، الجريدة الوحيدة التي تبلغ القرية، اشتراكًا يتقاسمه ضابط النقطة، وعمدة القرية، وخال لى، وكنت أعي بعض ما أقرأ، من أسماء الوزراء والأحداث على الأقل، وأفهم قدرًا يسيرًا من التعليقات، وقليلا جدًا من المقالات، أما الجانب الأكبر فكنت أراه طلاسم لا تعنى شيئًا، ولا زلت أذكر حتى الساعة مقالا كبيرًا فى الصفحة المخصصة للأدب والثقافة، عن “التشاؤم والتفاؤل” رحت أقرؤه مرة ومرة، فلم أفهم شيئًا مما يقول.
فى تلك الأيام سمعت أن حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين حل ضيفًا على ديوان عائلتي في كيمان المطاعنة، على بعد كيلو مترات من محل إقامتي، وفيها كان يسكن والدى أيضًا، فشددت رحيلي إليها، مأخوذًا برؤية شخصية قادمة من القاهرة، يظهر اسمها في الصحف بين حين وآخر، ويكتب المقال الافتتاحي في مجلة “النذير”، وكانت تقع فى يدى أحيانًا يجلبها خالي حين يذهب إلى السوق في المدينة، كان ذلك في أواخر شهر أغسطس من عام 1938م.
بدأت أتأمله من على بعد أولا، ومن قريب فيما بعد، هذا الضيف الوافد، يرتدى ملابس بيضاء فضفاضة، بسيطة ونظيفة، ويلف فوق طربوشه شاشًا، معتدل القامة والبنية، أبيض مشربًا بحمرة، مرسل اللحية، نافذ البصر والبصيرة، يتحرك وسط جموع الريفيين البسطاء كأنه هالة من نور، وهم حوله فرحون به، يعرف كيف يملك قلوب المئات الذين توافدوا من النجوع التي حول القرية، بعضهم طلاب فى الأزهر، والغالبية فلاحون، جاءوا مدعوين، أو ليسلموا عليه، أو مستطلعين.
كيف يمضى؟
أمضى حسن البنا وقتها في كيمان المطاعنة ليلة ويومين، زار فيها كل دواوين بطون العائلة في القرية، حتى أولئك الذين كانوا على خلاف مع أهلنا، أو الذين يرتبطون بأحزاب سياسية لا تتعاطف مع الإخوان المسلمين، وفي زيارته يصلح بين المتخاصمين، ويجمع الناس على كلمة خير، يفعل ذلك في الصباح على امتداده بعد إفطار بسيط، رغم وفرة ما يقدم وتنوعه، فإذا انتصف النهار صلى بالناس الظهر في المسجد، وأمهم فى الصلاة، وبعدها يتناول الغداء على بسط مفروشة على الطريقة العربية وجموع المدعوين على شرفه، فإذا انتهى الطعام أرسل شكره فى دعاء طيب، لا أزال أذكر لفظه، ويرن صداه في أذني كأنه قيل بالأمس، في لغة نقية رصينة، وامتنان صادق مؤثر: “أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم ملائكة الرحمن، وذكركم الله فيمن عنده”.
وبعد الغداء يستريح قليلا من وهج حر الظهيرة، حيث الشمس شديدة والحر قويّ في أعلى صعيد مصر، حتى إذا حانت صلاة العصر أم الناس فى مسجد القرية، وكان يومها متواضعًا، مفروشًا بالحصر، تعلوه قبة خفيفة من التراب، وتطوقه الشمس من كل جهاته، ومع ذلك لم يضق بشيء من هذا، وما ضجر ولا تأفف، وإنما ظل فيه بعد الصلاة يلقى حديثًا دينيًّا استهله بحديث: “وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتابه، ويتدارسون آياته، إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة..” ثم يمضى يفسر بعضًا من آي القرآن، ويربطها بواقع الناس، ولا أذكر الآن من تفاصيل الحديث شيئًا، وإن بقيت الصورة حية متوهجة في عقلي وقلبي.
فإذا جن الليل بعد رحلة مرهقة بين دواوين بطون القبيلة المختلفة، وآوى الناس إلى مضاجعهم، انفرد هو بنفسه، في صمت ومن غير ضجيج، يقرأ ورده، ويؤدي ما اعتاد من صلواته.
كان له رفيق فى هذه الرحلة، وكان يومها شابًا فارعًا، فى مقتبل العمر، موفور الجسد، قوى البنيان، تخرج في الأزهر حديثًا، يرتدى الزى الأزهري كاملا: عمامة وقفطانًا وكاكولة، وأذكر واعيًا أن الناس لم يرتاحوا إليه، رأوا فى حركاته تصنعًا وافتعالا، وفى حديثه عجبًا وخيلاء، وكلها فيمن يرون أشياء لا تليق بالعلماء، ولا تعكس ملامح وجهه شيئًا من نور الصالحين وتقاهم، وبدا لهم كأنه يطل عليهم من علٍ، فتركوه فردًا ضائعًا في ضجيج المتزاحمين حول البنا، وإن أعطوه حق الضيافة كاملا.
ومن كيمان المطاعنة إلى أصفون المطاعنة، حل ضيفًا على عائلة فراج طايع، وكان عميدها قد أمضى أعوامًا يدرس في الأزهر، دون أن ينال شهادة ما، على عادة الناس في تلك الأيام، وأصبح عضوًا فى مجلس الشيوخ عن الدائرة، بعد أن عهد إلى الشيخ محمد الأمير أن يقيم شعبة للإخوان في القرية، وكان هذا أيضًا قد درس عامين فى الأزهر، ولم يكمل دراسته، لأسباب خارجة عن إرادته، واستعاض عن حرمانه هذا بأن أخذ على عاتقه تبعة حث الناس في القرية على تعليم أبنائهم بإرسالهم إلى المدارس والمعاهد والكليات فى القاهرة، ويصحبهم أحيانًا بنفسه، على ما في ذلك من جهد ومشقة، وصدق في جهده.
جولة في الصعيد
وفى العام التالي، فى شهر سبتمبر 1939م، جاء حسن البنا في رحلة ثانية، شملت الصعيد كله في هذه المرة، جاء يؤكد صلته بالناس، ويدعم شعب الإخوان التي أقيمت، وإذا توثقت علاقته بأهلي وقومي، حاول أن يحل مشكلاتهم الاقتصادية والعائلية، وأن يوجههم نحو الخير، وأن يصرفهم عن بعض ما يقومون به من عادات، يسمع بها ولم يرها، كالثأر والتشاحن والعصبية القبلية، وكان احتفاء الناس به كبيرًا في هذه المرة وقوبل بإطلاق البنادق في الهواء زيادة في التكريم.
في هذه المرة رأيته عن قرب أكثر، فقد كبرت عامًا، وازداد اهتمامي بمعرفته، ولم يغير هو شيئًا في برنامجه، أو عبادته، أو ملابسه، غير أنه صحب شابًا أزهريًّا آخر، ولا زلت أذكر اسمه، رغم أننى لم أره بعد هذه المرة أبدًا، هو الشيخ عبد المعز عبد الستار، وكان طالبًا في كلية أصول الدين يومها فيما يقال، وقد أحبه الناس بقريب مما أحبوا البنا، فقد كان متواضعًا وقورًا، يشيع الصلاح من وجهه، “يغضى حياء، ويغضى من مهابته”، وكان البنا وصاحبه قد قدما إلينا في هذه المرة من أصفون المطاعنة، فلما أنهيا إقامتهما غادرنا إلى إسنا، ليواصلا رحلتهما في بقية مدن أعلى الصعيد.
في العاصمة .. قنا
في العام التالي ذهبت إلى قنا عاصمة المديرية، تلميذًا في معهدها الابتدائي، وكانت مدينة منطفئة، تبذل جهدًا لكى تحصل فيها على صحيفة أو كتاب، وأمضيت عامي الأول صبيًّا غرًّا، أسكن أطرافها، دون أن أهبطها لغير السينما ليلة الجمعة من كل أسبوع، فلم أعرف خلال عامي هذا من الحياة العامة فيها شيئًا، حتى إذا كان عامي التالي اتخذت سكنى في شارعها الرئيسي، وبدأت أتعرف على نواحي النشاط فيها، فكنت أتردد من حين لآخر على جمعية الشبان المسلمين، التي قصرت نشاطها على بعض المهرجانات الدينية، في المواسم المعتادة، مثل رأس السنة الهجرية، والمولد النبوي، وغزوة بدر، وشيىء من النشاط الرياضي، وفي تلك الأيام كان الناس يتخذون من المناسبات الدينية وسيلة لتغذية الشعور العام، وإيقاظ روح الوطنية والنضال، ضد المستعمر، دون أن يستطيع منعهم أو التصدى لهم، ويحضر مثل هذه الاحتفالات كبار الموظفين عادة، وتلقى فيها خطبة رئيسية تعرض لتاريخ المناسبة، وتحاول استخراج العظة، وتحث المسلمين على استرداد مجدهم، تتلوها قصائد يلقيها شعراء من أهل الإقليم عادة، متوسطة الجودة في خيرها، تناجى الرسول عليه الصلاة والسلام، وتبكى المجد الذاهب، وتأسى على الماضي المفقود وتأمل في غد أفضل حالا.
وكان المعهد الديني يقيم بدوره حفلا فخيمًا، ويتميز بأن المدير نفسه، وهو ما يعدل وظيفة المحافظ الآن، يحضره بشخصه، يصل برفقة شيخ المعهد، ويسبقه هذا في خطوه بوصفه رجل دين، رغم أنه مرءوس له بوصفه موظفًا طبقًا للوائح والقوانين، وهو اعتداد كان الأزهر يومها يدين به لشيخه العظيم محمد مصطفى المراغي عالمًا، وكرامة الهيئة التي يرأسها شيخًا، ولم يحن رأسه لحظة أمام أي مخلوق.
ولكن قنا الهادئة، تحولت عام 1940م إلى مدينة صاخبة تضج بالحركة والجند والسلاح والسيارات والمصفحات، جنود من كل جنس ولون، جاءوا من شتى أطراف الدنيا، من بريطانيا، والهند، ودول أفريقية وأستراليا وأوروبا، وألوف من العمال المصريين معهم، يتلقون أجورًا عالية، ويعملون فى مد خطوط السكك الحديدية والكهرباء والماء بين قنا والقصير على البحر الأحمر، فقد اندلعت الحرب العالمية الثانية قبل ذلك بعام، وعانى الإنجليز من هزائم مريرة في شمال مصر على الحدود الليبية، وحصارًا عنيفًا في البحر المتوسط؛ إذ سيطرت عليه الغواصات الألمانية والإيطالية، فأرادوا أن يتلقوا إمداداتهم عن طريق البحر الأحمر، وهو أكثر أمنًا لهم، ويتيح لهم الانسحاب بخسائر أقل في حالة الهزيمة الكاملة.
وجاء الجنود معهم بكل الأمراض، الجريمة، والسوق السوداء، والسرقات، وأزمة الإسكان، والتضخم، وقلة الموارد التموينية، والملاريا.
في تلك الأيام أحسست، وأنا على أبواب الشباب أن جمعية الشبان المسلمين مكان طيب لقضاء الوقت، والتدرب على الخطابة، ولكنها بلا غايات سياسية واضحة وصريحة، وأن تحرير الوطن لن يجيئء عن طريقها، وكان منظر الجنود الأعاجم من كل الجنسيات والألوان سكارى في آخر الليل يثيرنا، ويلهب فى أعماقنا الحماسة والتمرد، ويدفعنا إلى الاصطدام بهم دفعًا.
وساقتني قدماي صدفة إلى شعبة الإخوان المسلمين، وكانت تشغل الدور الأرضي من عمارة في ميدان المديرية، وهو الرئيسي في المدينة، وتطل عليه مباشرة، وتتكون من قاعة معدة للمحاضرات تتحول إلى مصلى في أوقات الصلاة، ومكتبٍ، وغرفة ثالثة، إلى جانب المرافق، وانضممت إليها فى الحال وفي ذاكرتي صورة هذا الرجل العبقري الذى رأيته في ديواننا منذ عامين.
كان نشاط الإخوان المسلمين متنوعًا، يشمل المحاضرات والدروس، والتدريب على الخطابة، والرحلات، وكل ضروب التعاون على الخير، والمنضمون إليها من المدرسين في الثانوية والمعلمين، ومن صغار الموظفين فى جملتهم، وبعض طلاب المعهد الديني، أما أساتذة المعهد فآثروا أن يظلوا على الحياد، وأن يقنعوا بالوعظ والخطابة في جمعية الشبان المسلمين.
وفى 20 مايو 1941م أصدر حسين سرى رئيس الوزراء قرارًا بنقل حسن البنا من مدرسة عباس الأول الابتدائية بالقاهرة إلى مدرسة قنا الابتدائية، وكان ذلك مع نهاية العام الدراسي، ولعله جاء ليتسلم العمل فقط، ثم سافر ثانية، لأنني لم أره في هذا العام، فقد كنت مشغولا بامتحاناتي أيضًا، أما في العام التالي، وجاء مع بدئه، فقد كنت إلى جوار البنا جل وقتي.
البنا معلمًا
كان البنا نموذجًا في دقته، موظفًا على ذكاء شديد، وقدرة فائقة في تحويل المواقف لصالحه، وحين جاءت الأوامر السرية لناظر المدرسة بأن يرهقه بالعمل، فيوكل إليه أقصى قدر من الساعات، والمدارس يومها تجرى على نظام اليوم الكامل، من السابعة والنصف صباحًا حتى الرابعة بعد الظهر، لم يتململ البنا من هذا، وكل ما هنالك أنه رغب في أن يقوم بتدريس الخط العربي، وسعدت المدرسة برغبته، وسعد بها زملاؤه، فقد كان المدرسون يهربون من هذه المادة؛ لأنهم يرونها أدنى من غيرها، ولعزوف الطلاب عنها، واعتمادها على الموهبة وحدها، وعدم اعتناء المفتشين بها، فأعطوها له شاكرين!.
أما البنا نفسه فكان يهدف من وراء هذه الرغبة إلى غايتين، أولاهما: أن الساعات المقررة للخط أسبوعيًا ساعتان، ومعنى هذا أنه سوف يدرس لكل تلاميذ المدرسة البالغ عددها 15 فصلا، سوف يلتقى بكل هؤلاء الصغار، وهم على أبواب الشباب، فيصنع منهم الرجل الذى يريده لبلاده، وهو ما حدث فعلا، فهذا المدرس البشوش، المبتسم دائمًا، العطوف فى هدوء، والحنون فى وقار، جعل من حصة الخط شيئًا جميلا، يقبل عليها الصغار فرحين، فهو يتباسط معهم في القول، ويحدثهم عن كثير من شئونهم، ولا يبعد بهم عن عالمهم، ويسألهم في غير إحراج أو تأنيب: من الذى صلى منهم الصبح فيكافئه ويطريه، ومن الذى يحفظ شيئًا من القرآن فيسمعه منه ويصحح له، فإذا جاءت فسحة وسط النهار تواعد معهم على اللقاء في مصلى المدرسة.
وبعد شهر واحد كان أحب الأساتذة إلى كل تلاميذ المدرسة بلا استثناء!.
أما الغاية الثانية: فهي أن حصة الخط تنتهى بانقضاء وقتها، فلا تصحيح بعدها، ولا تحضير لها، فيفيد بالقليل الذى تبقى له من اليوم وبقية الليل في الدعوة ونشرها، واكتساب أنصار لها، وفى القراءة والعبادة.
كان البنا ينزل فى “لوكاندة الجبلاوى الجديدة” وهى أرقى فندق في قنا على تلك الأيام، ولا يزال مبناها قائمًا إلى يومنا، وإن تدهور حاله وعدا عليه الزمان، وبرنامجه اليومي لا يكاد يختلف، يعود إليها مع الرابعة ليستريح قليلا، ويغير ملابسه، ثم يأتي إلى شعبة الإخوان فيصلي المغرب جماعة بمن فيها، صلاة وقورة خاشعة، لا يطيل فيها فترهق، ولا يجعل منها مجرد أداء واجب فيختصر، وينصرف بعدها إلى تصريف شئون الجماعة، ولقاء الزوار، أو زيارة من على موعد منهم من أهل البلد، أو الهيئات الأخرى إسلامية ومسيحية، ثم يعود إلى صلاة العشاء، وبعده يلقى درسًا دينيًّا هو قراءة في كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وكان يثنى عليه كثيرًا، وأول من لفت نظرنا إليه.
أما ليلة الجمعة، فكان يعقب صلاة العشاء محاضرة عامة، يأتيها الجمهور من كل أنحاء المدينة، من المنتسبين إلى الإخوان وغيرهم، وتدور حول قضايا الساعة التي تهم الجماهير، ولكنها تتخذ من الدين منطلقًا.
قلب يعمره حب الناس والطبيعة
أتاح لي القرب من البنا على امتداد تلك الشهور القليلة أن أتبين فيه أشياء كثيرة: الذاكرة القوية، فما رأيته مرة إلا وسألني عن أهلي بأسمائهم فردًا فردًا، حتى أولئك الذين لقيهم لدقائق قليلة، أو ذُكرت أسماؤهم أمامه مرة واحدة، وقدرته الفائقة على أن يتكلم العربية الصحيحة والبسيطة والواضحة دوامًا، وعفة لسانه، فما رأيته مرة يخوض في سيرة أحد، أو يذكر شخصًا بسوء، معارضًا أو عدوًّا، وإنما ينقد ما يراه من زيف وباطل، أو خروج على قواعد الدين، نقدًا موضوعيًّا، يشخص الداء، ويصف العلاج، ويأخذ بالأساليب أو يدعو إليها، ويعلو على تناول الأشخاص، ويعمل على أن يجمع ويوحد ويؤلف، ويردد باستمرار: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه”.
ورأيته يسع بقلبه الناس جميعًا، من يكبرونه سنًّا، ومن يفوقونه في الوظائف درجات، فضلاً عمن دونه عمرًا ومقامًا، يهتم بأمره، ويعينهم على تجاوز ما يعترضهم من صعاب، وفيما بعد سوف يضم المركز العام للإخوان المسلمين في القاهرة إدارة للعلاقات العامة مهمتُها معاونة الإخوان على مستوى القطر المصري أولا، ثم العالم الإسلامي فيما بعد، على حل مشكلاتهم اليومية والحياتية، ويحرص على أن يجمع الإخوان في أي مكان على الحب والود والتعاون، وأول ما يبدأ به أي خطبة له زائرًا، أن يذكر مستمعيه بأن يحمل لهم تحيات الإخوان في المكان القادم منه.
وكان يَشُدُّه جمال الطبيعة، ومنظر النيل، وغروب الشمس، ومهابة الجبال، ويرى فيها بديع صنع الله، وما أكثر ما صحِبَنا في جولات ونزهات إلى غابة قنا، وكانت قد أنشئت فى تلك الأيام على حافة المدينة، فوق جزء من الصحراء، وهناك نصلي المغرب، لا يحد بصرنا جدران، ولا يعزلنا عن السماء ستار.
ولم تمض غير شهور قليلة حتى أحست إنجلترا المستعمرة، ولها في قنا قوات ومخابرات، والحكومة المصرية التي كانت تتحرك في إطارها – أن حسن البنا في الصعيد أخطر منه في القاهرة، فهو يتحرك في مجال بكر مفتوح، ويلتقى بأناس خلص، لم تفسدهم الحضارة، ولم تعرف الطراوة طريقها إلى قلوبهم أو أبدانهم، فردته إلى القاهرة من جديد.
وقبل أن يرحل البنا من قنا أراد أن يفيد من مكانته، ومن حب الناس له، وتعلقهم به، فتمنى عليهم أن تكون دار الإخوان خاصة بهم وملكًا لهم، وليست شقة مستأجرة في عمارة، فانهالت التبرعات من كل طبقات السكان، وبنوها فى أفضل مكان من المدينة، وضمت الكثير من المؤسسات العلمية والاجتماعية: قاعة محاضرات، وعيادات، ومكتبة، ومصلى، ونزلا للقادمين من الإخوان، وأصبح أعضاؤها وروادها من خيرة موظفي المدينة ممن يعملون في الإدارات المختلفة.
بعض من عرفت
لا زالت بعض الصور ثابتة في ذاكرتي، وإن نسيت بعض الأسماء، أذكر الشيخ محمد عبد الظاهر، وكان مأذونًا وصاحب مكتبة، وحركة لا تهدأ وسوف يقضى حياته سجينًا فى الهجمة على الإخوان المسلمين، والفنان سعد الشاذلي، وكان مصورًا موهوبًا، وخلقًا عطرًا، ومات في التعذيب، ومستشارًا فاضلاً من رجال القضاء، كان يجيئنا في الدار، ويؤمنا في الصلاة، ويفسر معنا بعض آي القرآن، وإذا بي أكتشف أنه يحفظ القرآن، ولا تند منه آية، وكان محمد القرط المشرف على المجزر إذا صلى بنا المغرب أو العشاء يقرأ القرآن في عذوبة خاشعة يرق لها الصخر، وطه عبد السلام لا يكلف بشيئء إلا قام به راضيًا مهما يكن شاقًّا، وسوف يكون لحسين رشدي المدرس في صنايع قنا دور خطير سأعرض له فيما بعد، وكان هناك أحمد السنهوري، وظل وفيًّا لمبدئه حتى يومنا، وإبراهيم دهمش، ولم يكمل رحلته في التعليم أو في الإخوان.
في القاهرة
ولم يكد البنا يصل القاهرة ويستقر فيها حتى كشفت وزارة حسين سرى باشا عن نواياها، فأغلقت مطبوعاتهم، وتمالك الإخوان أعصابهم دون أن يداخلهم خوف أو رعب وفى تلك الأيام – ولعلها كانت أواخر شهر ديسمبر من عام 1941م – سوف يهبط قنا في القطار الذى يصلها في السابعة مساء مع أول الليل، وافد من القاهرة هو المناضل والتقى المضحى المرحوم الأستاذ صالح عشماوي، والتقى بالإخوان بعيدًا عن عيون الحكومة والإنجليز، في فيلا تقع على هامش المدينة، صلى فيها الإخوان العشاء، وتذاكروا أمورهم، وحمل إليهم القرارات: لا نستفز الحكومة، ولكن إذا دعت الحال سوف نواجهها من وراءها، ومع الفجر عاد إلى المحطة، وأخذ القطار الذى يغادرها فجرًا دون أن يحس به أحد.
وأذكر أننا بعدها تدارسنا كيف نواجه الإنجليز في كل مواقع المدينة الهامة، مراكز تجمع الكهرباء والهاتف، وكيف يمكن أن نقطعها في دقائق فنعزل المدينة، ونغرقها في الظلام، ومن يقوم بهذه المهمة وكيف، وجاءنا العاملون في الإدارات المتصلة بهذه الخدمات بالخرائط كاملة، وتولى حسين رشدي تدريبنا على طريقة فصل الكهرباء فى مجمعاتها دون أن نصاب بأذى، ودرسنا تجمعات القوات البريطانية، ومخازن سلاحها، وكيفية مواجهتها إذا هي تدخلت، ولا أدرى ما الذى كان يحدث في القاهرة يومها، ولكن لم تمض غير أيام قليلة حتى أفرج عن حسن البنا، وألغى قرار حل الإخوان ومنع اجتماعاتهم، فعادوا يمارسون نشاطهم بأقوى مما كان بعد أن اكتسبوا شعبية هائلة.
ورغم نشاط الإخوان المتسع في قنا إلا أن الدراسة في المعهد لم تكن مفيدة أو حتى مسلية، فقد كان مستوى المدرسين هابطًا، ومعلوماتهم التربوية منعدمة، وليس لهم تخصص محدد يعنون به، وكل مدرس يدرس كل شىء، والحياة الثقافية فى المدينة متخلفة، وفى تلك الأيام جاء المعهد معينًا جديدًا الشيخ كامل عجلان، وكان صحفيًّا أديبًا، فزلزل بأسلوبه وطريقته في الحياة والتعامل والفهم ما جمد من أفكارنا، وحثني على ترك هذا الجو الخانق، وهكذا قررت أن أرحل إلى القاهرة، وأن أقضى مرحلة التعليم الثانوي فيها.
في 9 أكتوبر 1944م وصلت القاهرة، وهي تموج بالمظاهرات من كل شكل ولون، فقد أقيلت وزارة الوفد بعد صراع مرير مع القصر الملكى، وجاء فاروق بأحمد ماهر باشا رئيسًا للوزراء، فحل البرلمان، وبدأ يختط سياسة يمثل رأى فاروق مركز الثقل فيها.
وابتلعتني القاهرة بصخبها، ومظاهراتها الطلابية التي لم تكن تتوقف، وندواتها الثقافية العديدة، فى الجمعيات، والنقابات، والجامعات، وبعضها كنا نحضره مقابل ثمن يعدل ثمن تذكرة السينما، وهكذا احتجت لبعض الوقت لكى تعرف قدمي طريقها إلى المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين، وكان يقع فى أهم ميدان من الحلمية الجديدة، وتجيىء في وسط القاهرة تمامًا، وكانت فى مطلع هذا القرن مسكن علية القوم.
كان للإخوان في الميدان داران، إحداهما قديمة متواضعة، من طابقين، شغلها المركز العام زمنًا، وتحتلها جريدة الإخوان، والثانية قصر منيف، اشتراه الإخوان حديثًا، من تبرعات عمت القطر المصري كله لهذا المقر ولإصدار الصحيفة اليومية، وشارك فيها المواطنون من كل الطبقات، الأغنياء والفقراء، المثقفون والعمال والرجال والنساء والأطفال، بما يملكون من مدخرات بسيطة أو جواهر وحلىّ، وفى القاعة العربية من هذا القصر، وكانت بالغة الفخامة والروعة، رأيت حسن البنا للمرة الأولى في القاهرة، وحوله حشد من الناس، يسلمون على الجمهور إثر اجتماع حافل من الاجتماعات التي كانت تقام لنصرة قضية فلسطين، وعرفت بينهم للوهلة الأولى الحاج أمين الحسيني مفتى فلسطين الأكبر، واللواء صالح حرب رئيس جمعية الشبان المسلمين، وآخرين لم أعرف منهم أحدًا.
وانتظرت حتى انتهت الجموع، فتقدمت إليه، تذكرني في الحال، ورحب بي، وسألني كالعادة عن أهلي، فردًا فردًا، وعن حالي وسكني ودراستي، وأن يراني من حين لآخر، وبدأت أتردد على المركز العام، وعرفت أن الأستاذ المرشد – وكان هذا لقب البنا – يلقى كل ثلاثاء حديثًا، يبدأ عقب صلاة العشاء، ويمتد حسب الظروف، ساعتين وأحيانًا ثلاث ساعات، وتتدفق الجماهير لسماعه من كل أنحاء القاهرة، ومن المدن والقرى القريبة، وتملأ ساحة القصر والميدان، وتشغل الشوارع التي أمامها، يحملون مقاعدهم، احتراسًا، أو يقفون على أقدامهم فى انتظار أن يسمعوا هذا الرجل الملهم، إنه يعرف ببلاغة لا نظير لها، عمادها الصدق أولا، كيف يأخذ طريقه إلى قلوب الجماهير، وكان الحديث متنوعًا، فى الدين والسياسة، والاقتصاد والاجتماع، وكل ما يمس الحياة، وفى نهاية المحاضرة يتقدم إليه جمهور المستمعين بما يرون استيضاحه، ولأن أعدادهم تمتد إلى نصف كيلو متر تقريبًا، فهم يكتبونها في أوراق يسلمها المرء لمن أمامه حتى تبلغ البنا في النهاية، ثم تأتيه الإجابة عليها علانية، عبر مكبرات الصوت، مهما كانت خطورة السؤال.
ثقافته الجامعة
أوتى حسن البنا جوامع الكلم، وكان خير من يطبق القاعدة البلاغية القديمة: لكل مقام مقال، فعنده حديث لكل مستوى، ولمشكلات كل لحظة، وهو يملك ناصية اللغة، معجمًا وقواعد، ويحفظ القرآن كله، ويلم بالحديث في مجمله، ويدرك أسرارهما واعيًا، ويستخدم ذلك كله فى مهارة، إلى ثقافة معاصرة بلا حدود، يحار المرء معها: كيف وأين ومتى حصلها، فهي لا تقف عند الثقافة الإسلامية وحدها، وإنما تتجاوزها إلى الصراعات العالمية، السياسية والمذهبية، والاجتماعية، والمنجزات الاجتماعية على امتداد العالم كله، إلى شجاعة فائقة، غير متهورة ولا مترددة.
وفى حديث منها جاءه سؤال عما يقال من أموال دفعها إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء للإخوان كي يستميلهم إلى سياسته، فكان رده: أولا، المنطق أن على من اتهم أن يثبت، فالبينة على من ادعى، فإذا لج في الخصام، فدعوه وأمره، وقولوا له: ليكن ما تقول، فإن صدقي لم يدفع من جيبه، والإخوان لا ينفقون جماعة في غير ما ترون وما تعرفون من المؤسسات الإسلامية، وهم قبل ذلك ومن بعد، لا يحيدون عن دعوتهم ولا منهجهم قيد أنملة، ولو بملء الأرض ذهبًا.
وكان هناك حديث آخر أقل شهرة، عرف باسم “حديث الخميس” لطلاب الجامعة ومن في مستواهم، وهو إلى الحوار والبحث أقرب منه إلى العرض والوعظ، ويدور حول موضوع واحد، وقضية محددة، يتدارسها المجتمعون وهو اتجاه لم يعمر طويلا؛ لأن صاحبه سوف يغيب عن الحياة بعد قليل.
وذات يوم جاء القاهرة قريب لي، هو الشيخ محمد الأمير، ومعرفته بالبنا وثيقة، فذهبنا لرؤياه في المركز العام، ولأن الرجل كان مشغولا، فقد ضرب لنا موعدًا في بيته في صباح اليوم التالي، في الساعة التاسعة صباحًا.
وفى الموعد المحدد ذهبنا إليه، كان يسكن الحلمية أيضًا، على مقربة من المركز العام في سكة سنجر الخازن، في الطابق فوق الأرضي، من بيوت القاهرة القديمة، فقابلنا في غرفة الاستقبال، وتفتح على السلم مباشرة كعادة البيوت في تلك الأيام، وفى صمت رحت أتأمل بيت الرجل الذى يهز مشاعر الألوف حين يتحدث، ويلتف حوله المجاهدون العرب، وتتعلق به آمال المواطنين، فإذا به غاية في البساطة، تشغل المكتبة جدارين منه وفى جانب آخر مكتب متواضع، وأمامه كرسيان خيزران، جلسنا عليهما، على حين جلس هو على مكتبه، وجاء الشاي لنا جميعًا، ودار بينهما حديث عن الناس في الصعيد، وعن تنظيم شعب الجماعة في قراه، وعن رعاية أبنائهم الوافدين للتعليم فى القاهرة.
لم تكن جماعة الإخوان يومها مجرد تجمع ديني أو سياسي، أو هما معًا، وإنما قوة ظاهرة، تسيطر على الشارع والمصنع والجامعة، ويحكم حركتها نظام دقيق وتوجه أمورها إدارات متخصصة، وهى أول مؤسسة في مصر اهتمت بالعالمين العربي والإسلامي باطِّراد، وفى ضوء منهج محكم، وأقامت لذلك إدارة متخصصة تتبع مشاغله وهيئاته، وتغذى كفاحه بما تستطيع.
انسجام الفكر والموقف
وفى تلك الأيام استقال حسن البنا من عمله مدرسًا للغة العربية بالتعليم الابتدائي، دون معاش، ليعطي كل وقته لشئون الدعوة، وحتى يواجه بنفسه متطلبات حياته المتواضعة، أصدر مجلة “المسلمون” المتخصصة، امتيازها له، ويكتب فيها، ويعاونه نخبة من أفاضل العلماء والباحثين، ويأخذ من فائض دخلها ما يعينه على العيش دون زيادة.
كان البنا كما رأيته نموذجًا لا يتكرر بسهولة، سلوكه ينسجم مع فكره ومواقفه تتفق وما يدعو إليه، وشغل حبى له وإيماني به قائدًا ملهمًا الجانب الأكبر من تفكيري يومها، وكنت أرى في المرحوم صالح عشماوي، رئيس تحرير مجلة “النذير” ثم “الدعوة” من بعد، صورة قريبة من البنا، وإن لم يوهب بلاغته وانطلاقه وحكمته، فقد كان التفاني مجسمًا، والإخلاص بشرًا يتحرك على الأرض.
على أن شابًّا فى مثل سنى، لم يكن يومها يساق بما يعرف فحسب؛ لأن ما يعرف لا شيىء في الحقيقة، وإنما يستجيب أيضًا لنبض القلب، وأمور القلب لا تخضع دومًا لحكم العقل، ومن ثم لم أكن – على بساطة تجربتي وتفاهتها – راضيًا عن مواقف عدد من كبار الإخوان.
تدخل بريطاني سافر
كان الإخوان المسلمون في السنوات التالية لإنهاء الحرب يمثلون قوة رهيبة وثقلا سياسيًا ملحوظًا فى الشارع المصري، ولا يمكن تجاهله، ويدفعون الجماهير ويقودونها، للمطالبة بإجلاء الإنجليز، ولعبوا دورًا قتاليًّا بارزًا، وبالغ الأهمية، فى حرب فلسطين الأولى، قبل أن تدخلها الجيوش النظامية فى 15مايو عام 1948م، وفى نوفمبر من العام نفسه، عقد قناصل إنجلترا وفرنسا وأمريكا اجتماعًا فى قرية فايد، وكانت تحتلها القوات البريطانية إلى جانب ضفتي قناة السويس على امتدادها، وكلفوا السفير البريطانى أن يطلب من النقراشي باشا رئيس وزراء مصر إصدار قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين، وأرسل جورج أوبريان السكرتير السياسي للقائد العام للقوات البريطانية فى الشرق الأوسط، ومقره فايد أيضًا، خطابًا إلى إدارة المخابرات التابعة للقوات البريطانية فى مصر وشرقي البحر المتوسط يخبرها بما دار في الاجتماع، والنتيجة التي انتهى إليها، وأن السفارة البريطانية فى القاهرة سوف تتخذ الإجراءات اللازمة لحل جمعية الإخوان المسلمين.
وجاء الرد سريعًا، بعد أسبوعين تقريبًا من هذا الاجتماع، ففي 8 ديسمبر 1948م أصدر النقراشي باشا – بوصفه حاكمًا عسكريًا عامًّا – أمرًا بحل جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة شُعبها وممتلكاتها، وكل مؤسساتها وأموالها، وتعطيل صحفها، واعتقال الألوف من أعضائها.
وحاول حسن البنا أن يلتقى مع رئيس الوزراء على حل، فلم يكن راغبًا فى المواجهة، ومع أن قوة الإخوان المسلمين وما أفادوه من تجارب قتالية فى حرب فلسطين يجعل منهم قوة قادرة على مواجهة الحكومة، والانتصار عليها، إلا أن الرجل كان يعرف ويعي جيدًا، أن أكثر من مائة ألف جندي بريطاني يعسكرون في منطقة القناة، فى انتظار الفرصة المواتية، ومتأهبون لاحتلال مصر من جديد، وبذلك يئدون النهضة الوليدة في فجرها.
لم يرد لمأساة أحمد عرابي أن تتكرر ثانية! غير أن النقراشي كان حريصًا على أن يظل في الحكم، وبقاؤه فيه مرتبط برضى فاروق والإنجليز عنه، فركب رأسه، وأصم أذنيه عن أية وساطة أو محاولة إيجاد حل، وفى 28 ديسمبر 1948م، أي بعد عشرين يومًا من قرار الحل، أطلق طالب فى كلية الطب البيطري الرصاص عليه، أثناء دخوله وزارة الداخلية، بعد أن تخفى الطالب في زي ضابط شرطة فأرداه قتيلاً.
حادثة 12 فبراير 1949
وجاء إبراهيم عبد الهادي ضعيفًا خانعًا، مضطربًا حريصًا على الحياة، وأصبح رئيسًا للوزراء بعد أن كان رئيسًا للديوان الملكي، وأغرق مصر في موجة من الاعتقالات والمحاكمات العسكرية، بلا تحقيق ولا تثبت، وعرفت مصر لأول مرة في تاريخها الحديث تعذيب المعتقلين على نحو بشع، وهناك أكثر من جهة يهمها أن تتخلص من المرشد العام للإخوان المسلمين، وعلى رأسهم فاروق، ولم ينس أن مصر دفعت بقوتين فى حرب فلسطين، الجيش المصري ويتلقى أوامره من فاروق الذى كان قائده الأعلى، وكتائب الإخوان المسلمين وتتلقى أوامرها من حسن البنا، وإنها أرقى تدريبًا، وأحسن تسليحًا، وأشد فعالية وقابلية للتضحية والفداء، وأنها لم تهزم في معركة، فبات يخشاهم من قلبه، ومعه الإنجليز، والصهيونية نفسها بعد أن خبرت شبابهم في القتال، فتجمعوا كلهم، ودفعوا بحكومة إبراهيم عبد الهادي نفسها لاغتيال حسن البنا فى يوم 12فبراير من عام 1949م، في الساعة الثامنة مساء، ومع أنه تمالك نفسه، ونزل من سيارة الأجرة التي كان يستقلها، واتجه إلى هاتف جمعية الشبان المسلمين حيث كان هناك، وأدار رقمين من مكالمة حاول أن يطلبها قبل أن يغمى عليه، إلا أنه نقل إلى مبنى الإسعاف على بُعد دقائق، ثم إلى قصر العيني، وهناك أجهزوا عليه تمامًا. رحمه الله.
في صبيحة اليوم التالي كنت أقف في نافذة البيت الذى أسكنه في ميدان السيدة عائشة، وبه يمر الطريق إلى مقابر الإمام الشافعي، فرأيت سيارة الموتى، تطوقها قوات ضخمة من الشرطة مدججة بالسلاح، وتتبعها عربات مصفحة تنطلق بسرعة، لا أحد أمامها غير العسكريين، ولا معها ولا وراءها، ولم يخالجني أدنى شك فى أنها تحمل جثمان الشهيد.
ولم أبك، فقد جف الدمع في عينيّ، وتوزعتني هموم غامرة، عما سوف ينتهى إليه وطني في مستقبله القريب والبعيد، ثم قرأت على روحه الفاتحة!.
المصدر: مجلة الدوحة العدد (115) – شوال 1405هـ يوليو 1985م.
الدكتور الطاهر مكي ـ رحمه الله ـ أستاذ الأدب في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وناقد وباحث فى الأندلسيات ومترجم ومحقق، من مواليد محافظة قنا 1924م، حاصل على دكتوراه الدولة فى الأدب والفلسفة من جامعة مدريد بإسبانيا عام 1961م، نال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1991م، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في ا لأدب عام 1993م، وله العديد من الأبحاث العلمية المنشورة بالمجلات المتخصصة بمصر وخارجها فى مجال الدراسات الأدبية.
والمقال كتبه بعنوان : (صورة إنسانية بعيدة عن السياسة “حسن البنا كما عرفته)