لو قال لنا أي كاتب أو محلل أو سياسي قبل أسبوعين إن فلسطين من البحر إلى النهر ستنفذ إضرابا عاما متزامنا ضد الاحتلال، لقلنا إنه مجنون.. هذا “الجنون” الفلسطيني الجميل أصبح اليوم واقعا، وليس مجرد تحليلات.
دخلت حركة التحرر الفلسطيني مرحلة “العقلانية” كما كانت توصف منذ عام 1974 مع برنامج النقاط العشر، ثم ازدادت “عقلانية” وفق المعنى الممجوج المتداول للكلمة في أوسلو عام 1993. لم تحقق هذه العقلانية المزعومة أية نتائج خلال عقود طويلة، بل أدت إلى تقسيم الشعب الفلسطيني، وإلغاء فلسطينيي الداخل من المعادلة تماما، وارتفاع مذهل في عدد المستوطنات في الضفة الغربية، وحصار ظالم في غزة، ونظام فصل عنصري في القدس ومناطق الـ 48، وانهيار في صورة النضال الفلسطيني في العالم، وارتفاع في عدد الدول التي تعترف بدولة الاحتلال، وهرولة دول عربية للتطبيع بذريعة وجود “اتفاقية سلام” بين السلطة الفلسطينية وتل أبيب.
لو أردنا متابعة سرد نتائج هذه “العقلانية” و”التكتيك” الذي غنى فنان الثورة “عبد الله حداد” في ذمه ولعنه في الثمانينات، لما انتهينا. فهذا المسار دخل في كل تفاصيل الحياة الفلسطينية، وخرب حياة الفلسطيني العادية كما خرب السياسة والنضال على حد سواء. غزت مصطلحات وكوارث جديدة الحالة الفلسطينية مع استمرار هذا المسار، مثل “الفلسطيني الجديد” و”التنسيق الأمني”، وصار من يفترض أنه رئيس حركة التحرر يراعي حساسيات الاحتلال أكثر من مراعاة حاجات وحقوق شعبه.. والكوارث كثيرة على أن تعد وتحصى.
فجأة، توارت “عقلانية” الفلسطيني خلف هذا “الجنون” الجميل الطاغي، الذي جعل من أحلام وحدة النضال الفلسطيني حقيقة. ثلة مناضلة في غزة، أطلقت لأحلامها العنان، (وما هو المناضل إذا لم يكن حالما؟!)، وقررت في لحظة عشق فلسطينية أن تربط بين غزة والقدس، وأن تجعل قوة القطاع المحاصر -على قلتها- بين يدي منى الكرد ومحمد الكرد وأهالي حي الشيخ جراح. تحول هذا الربط بين غزة والقدس خلال أيام إلى حالة غير مسبوقة من الوحدة الوطنية.
إذا أردنا أن نفهم أهمية ما يحدث اليوم، فيكفي أن نتذكر أنها المرة الأولى التي يحدث فيها إضراب وطني عام على مستوى فلسطين التاريخية كلها منذ إضراب عام 1936 وهو أطول إضراب وطني في التاريخ وأول حدث من نوعه. ومع ذلك، فإن إضراب اليوم أهم من مثيله في 1936، لأنه يأتي بعد تقسيم الشعب الفلسطيني إلى “كانتونات” متفرقة منذ عشرات السنوات، وبعد أكثر من 73 عاما على النكبة، وبرغم كل المحاولات عبر هذه الأعوام الثلاثة والسبعين للعمل على “أسرلة” الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة 1948.
تلاشت اليوم الفروق بين غزة والضفة، وبينهما وبين القدس، والأهم أن الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948 التحم لأول مرة منذ النكبة بهذا الحجم والاتساع مع إخوانه في الأراضي المحتلة عام 1967.
كانت أسماء المدن الفلسطينية والقرى المحتلة منذ 1948 قد بدأت تغيب عن أذهاننا، وصارت لسنوات مجرد أحاديث في الذاكرة الشفوية الفلسطينية، ولكنها اليوم عادت لتتصدر وسائل الإعلام، ليس من قبيل الذكرى والبكاء على الأطلال، ولكن من باب المشاركة في الفعل الفلسطيني النضالي من أوسع أبوابه.
قديما قال محمود درويش: “حاصر حصارك بالجنون وبالجنون”.. واليوم حاصر الفلسطينيون الاحتلال بـ”جنون” غزة العظيمة، الذي لولاه لما أصبحت وحدة الشعب الفلسطيني التي نشهدها اليوم حقيقة.
لم تنجح أي حركة تحرر وطني في التاريخ إذا تصرفت بحسابات الدول “العقلانية”. كانت معضلة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ عقود وإلى قبل أسبوع، أنها باتت تمارس سلوكا “دولتيا” قبل الحصول على الدولة، وهو ما يجب أن يتوقف الآن، إكراما لضحايا غزة الذين دفعوا ويدفعون ثمن الحرية والكرامة، ليس لهم فقط، بل للفلسطينيين جميعا، ولكل أحرار العالم.