بِسْــمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أحييكم بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الإخوان المسلمون…
أيها الناس أجمعون…
في هذا الصخب الداوي من صدى الحوادث الكثيرة المريرة، التي تلدها الليالي الحبالى في هذا الزمان، وفي هذا التيار المتدفق الفياض من الدعوات التي تهتف بها أرجاء الكون، وتسري بها أمواج الأثير في أنحاء المعمورة، مجهزة بكل ما يغري ويخدع من الآمال والوعود والمظاهر.
نتقدم بدعوتنا نحن الإخوان المسلمون…
هادئة…
لكنها أقوى من الزوابع العاصفة…
متواضعة…
لكنها أعز من الشم الرواسي…
محدودة…
لكنها أوسع من حدود هذه الأقطار الأرضية جميعًا..
خالية من المظاهر والبهرج الكاذب…
ولكنها محفوفة بجلال الحق، وروعة الوحي، ورعاية الله…
مجردة من المطامع والأهواء والغايات الشخصية والمنافع الفردية، ولكنها تورث المؤمنين بها والصادقين في العمل لها السيادة في الدنيا والجنة في الآخرة.
على ضـوء الدعـوة الأولـى
أيها الإخوان المسلمون…
أيها الناس أجمعون…
اسمعوها صريحة داوية، يجلجل بها صوت الداعي الأول من بعد كما جلجل بها من قبل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (المدثر:3). ويدوي معها سر قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94).
ويهتف بها لسان الوحي مخاطبا الناس أجمعين: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158).
أين نحن من تعاليم الإسلام؟
أيها الإخوان المسلمون…
أيها الناس أجمعون…
إن الله بعث لكم إمامًا، ووضع لكم نظامًا، وفصل أحكامًا، وأنزل كتابًا، وأحل حلالًا، وحرم حرامًا، وأرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم، وهداكم سواء السبيل ؛ فهل اتبعتم إمامه، واحترمتم نظامه، وأنفذتم أحكامه، وقدستم كتابه، وأحللتم حلاله، وحرمتم حرامه؟
كونوا صرحاء في الجواب، وسترون الحقيقة واضحة أمامكم، كل النظم التي تسيرون عليها في شؤونكم الحيوية نظم تقليدية بحتة لا تتصل بالإسلام، ولا تستمد منه ولا تعتمد عليه:
نظام الحكم الداخلي.
نظام العلاقات الدولية.
نظام القضاء.
نظام الدفاع والجندية.
نظام المال والاقتصاد للدولة والأفراد.
نظام الثقافة والتعليم.
بل نظام الأسرة والبيت.
بل نظام الفرد في سلوكه الخاص.
الروح العام الذي يهيمن على الحاكمين والمحكومين، ويشكل مظاهر الحياة على اختلافها، كل ذلك بعيد عن الإسلام وتعاليم الإسلام.
وماذا بقي بعد هذا؟
هذه المساجد الشامخة القائمة التي يعمرها الفقراء والعاجزون، فيؤدون فيها ركعات خالية من معاني الروحانية والخشوع إلا من هدَى الله؟
هذه الأيام التي تصام في العام فتكون موسمًا للتعطل والتبطل والطعام والشراب، وقلما تتجدد فيها نفس أو تزكو بها روح..
(إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) (صّ:24).
هذه المظاهر الخادعة من المسابح والملابس، واللحى والمراسم، والطقوس والألفاظ والكلمات..
أهذا هو الإسلام الذي أراده الله أن يكون رحمته العظمى، ومنته الكبرى على العالمين؟
أهذا هدي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أراد به أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور؟
أهذا هو تشريع القرآن الذي عالج أدواء الأمم ومشكلات الشعوب، ووضع للإصلاح أدق القواعد وأرسخ الأصول؟
موجة التقليد الغربي
أيها الإخوان المسلمون…
بل أيها الناس أجمعون…
من الحق أن نعترف بان موجة قوية جارفة وتيارا شديدا دفاقا قد طغى على العقول والأفكار في غفلة من الزمن، وفي غرور من أمم الإسلام، وانغماس منهم في الترف والنعيم.. فقامت مبادئ ودعوات، وظهرت نظم وفلسفات، وتأسست حضارات ومدنيات، ونافست هذه كلها فكرة الإسلام في نفوس أبنائها، وغزت أممه في عقر دارها، وأحاطت بهم من كل مكان، ودخلت عليهم بلدانهم وبيوتهم ومخادعهم، بل احتلت قلوبهم وعقولهم ومشاعرهم، وتهيأت لها من أسباب الإغواء والإغراء والقوة والتمكن ما لم يتهيأ لغيرها من قبل، واجتاحت أمما إسلامية بأسرها، وانخدعت بها دول كانت في الصميم والذؤابة من دول الإسلام،
وتأثر ما بقي تأثرا بالغا، ونشأ في كل الأمم الإسلامية جيل مخضرم، إلى غير الإسلام أقرب، تصدّر في تصريف أمورها واحتل مكان الزعامة الفكرية والروحية والسياسية والتنفيذية منها، فدفع بالشعوب مغافلة إلى ما يريد، بل إلى ما ألف وهي لا تدري ما تدري ما يراد بها ولا ما تصير إليه، وارتفعت أصوات الدعاة إلى الفكرة الطاغية: أن خلصونا مما بقي من الإسلام وآثار الإسلام، وتقبلوا معنا راضين لا كارهين مستلزمات هذه الحياة وتكاليفها وأفكارها ومظاهرها، واطرحوا بقية الفكرة البالية من رؤوسكم ونفوسكم، ولا تكونوا مخادعين منافقين معاندين، تعملون عمل الغربيين وتقولون قول المسلمين.
من الحق أن نعرف أننا بعدنا عن هدي الإسلام وأصوله وقواعده، والإسلام لا يأبى أن نقتبس النافع وأن نأخذ الحكمة أنى وجدناها، ولكنه يأبى كل الإباء أن نتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله على شيء، وأن نطرح عقائده وفرائضه وحدوده وأحكامه، لنجري وراء قوم فتنتهم الدنيا واستهوتهم الشياطين.
حقًا لقد تقدم العلم، وتقدم الفن، وتقدم الفكر، وتزايد المال، وتبرجت الدنيا، وأخذت الأرض زخرفها وازينت، وأترف الناس ونعموا ؛ ولكن هل جلب شيء من هذا السعادة لهم؟ وهل أمن لهم شيء من هذا الحياة، أو ساق إلى نفوسهم الهدوء والطمأنينة؟
هل اطمأنت الجنوب في المضاجع؟
هل جفت الجفون من المدامع؟
هل حوربت الجريمة، واستراح المجتمع من شرور المجرمين؟
هل استغنى الفقراء وأشبعت الملايين التي تفوق الحصر بطون الجائعين؟
هل ساقت هذه الملاهي والمفاتن، التي ملأت الفضاء وسرت مسرى الهواء، العزاء إلى المحزونين؟
هل تذوقت الشعوب طعم الراحة والهدوء، وأمنت عدوان المعتدين وظلم الظالمين؟ لا شيء من هذا أيها الناس، فما فضل هذه الحضارة إذن على غيرها من الحضارات؟
وهل هذا فحسب؟
ألسنا نرى هذه النظم والتعاليم والفلسفات حتى في العلوم والأرقام يحطم بعضها بعضا، ويقضي بعضها على بعض، ويرجع الناس بعد طول التجربة وعظيم التضحيات فيها بمرارة الفشل وخيبة الأمل وألم الحرمان؟
مـهـمّتنـا
ما مهمتنا إذًا نحن الإخوان المسلمين؟
أما أجمالا: فهي أن نقف في وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة،وحضارات المتع والشهوات،التي جرفت الشعوب الإسلامية، فأبعدتها عن زعامة النبي وهداية القرآن، وحرمت العالم من أنوار هديها، وأخرت تقدمه مئات السنين، حتى تنحسر عن أرضنا ويبرأ من بلائها قومنا، ولسنا واقفين عند هذا الحد بل سنلاحقها في أرضها، وسنغزوها في عقر دارها، حتى يهتف العالم كله باسم النبي، وتوقن الدنيا كلها بتعاليم القرآن، وينتشر ظل الإسلام الوارف على الأرض، وحينئذ يتحقق للمسلم ما ينشده،فلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله و(للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:5).
هذه مهمتنا نحن الإخوان المسلمين إجمالا.
وأما في بعض تفاصيلها: فهي أن يكون في صمر أولا – بحكم أنها في المقدمة من دول الإسلام وشعوبه – ثم في غيرها كذلك:
ـ نظام داخلي للحكم يتحقق به قول الله تبارك وتعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) (المائدة:49).
ـ ونظام للعلاقات الدولية يتحقق به قول القرآن الكريم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة:143).
ـ ونظام عملي للقضاء يستمد من الآية الكريمة: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65).
ـ ونظام للدفاع والجندية يحقق مرمى النفير العام: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (التوبة:41).
ـ ونظام اقتصادي استقلالي للثروة والمال والدولة والأفراد أساسه قول الله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (النساء:5).
ـ ونظام للثقافة والتعليم يقضي على الجهالة والظلام، ويطابق جلال الوحي في أول آية من كتاب الله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1).
ـ ونظام الأسرة والبيت ينشئ الصبي المسلم والفتاة المسلمة والرجل المسلم ويحقق قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم:6).
ـ ونظام للفرد في سلوكه الخاص يحقق الفلاح المقصود بقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس:9).
ـ وروح عام يهيمن على كل فرد في الأمة من حاكم أو محكوم قوامه قول الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ) (القصص:77).
نحن نريد:
ـ الفرد المسلم…
ـ والبيت المسلم…
ـ والشعب المسلم…
ـ والحكومة المسلمة…
ـ والدولة التي تقود الدول الإسلامية، وتضم شتات المسلمين، وتستعيد مجدهم، وترد عليهم أرضهم المفقودة وأوطانهم المسلوبة وبلادهم المغصوبة، ثم تحمل علم الجهاد ولواء الدعوة إلى الله، حتى تسعد العالم بتعاليم الإسلام.
عـدتنــا
هذه غايتنا أيها الناس… وهذا منهاجنا
فما عدتنا لتحقيق هذا المنهاج؟
عدتنا هي عدة سلفنا من قبل، والسلاح الذي غزا به زعيمنا وقدوتنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته معه العالم، مع قلة العدد وقلة المورد وعظيم الجهد:
، هو السلاح الذي سنحمله لنغزو به العالم من جديد.
لقد آمنوا أعمق الإيمان وأقواه وأقدسه وأخلده:
ـ بالله ونصره وتأييده: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ) (آل عمران:160).
ـ وبالقائد وصدقه وإمامته: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب:21).
ـ وبالمنهاج ومزيته وصلاحيته: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة:15-16).
ـ وبالإخاء وحقوقه وقدسيته: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10).
ـ وبالجزاء وجلاله وعظمته وجزالته: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة:120).
ـ وبأنفسهم: فهم الجماعة التي وقع عليها اختيار القدر لإنقاذ العالمين، وكتب لهم الفضل بذلك،فكانوا خير أمة أخرجت للناس.
لقد سمعوا المنادي ينادي للإيمان فآمنوا، ونحن نرجو أن يحبب الله إلينا هذا الإيمان، ويزينه في قلوبنا كما حببه إليهم وزينه من قبل في قلوبهم…فالإيمان أول عدتنا.
ولقد علموا أصدق العلم وأوثقه أن، أن دعوتهم هذه لا تنتصر إلا بالجهاد، والتضحية والبذل وتقديم النفس والمال، فقدموا النفوس وبذلوا الأرواح،وجاهدوا في الله حق جهاده، وسمعوا هاتف الرحمن يهتف بهم: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (التوبة:24).
فأصاخوا للنذير، وخرجوا عن كل شيء، طيبة بذلك نفوسهم، راضية قلوبهم، مستبشرين ببيعهم الذي بايعوا الله به.
يعانق أحدهم الموت وهو يهتف: ركضا إلى الله بغير زاد.
ويبذل أحدهم المال كله قائلا: تركت لعيالي الله ورسوله.
ويخطر أحدهم والسيف على عنقه:
ولست أبالي حين اقتل مسلما
عن أي جنب كان في الله مصرعي
كذلك كانوا: صدق جهاد، وعظيم تضحية، وكبير بذل، وكذلك نحاول أن نكون… فالجهاد من عدتنا كذلك.
ونحن بعد هذا كله واثقون بنصر الله، مطمئنون إليه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:40-41).
بين الخيال والحقيقة
سيقول الذين يسمعون هذا إنه الخيال بعينه وإنه الوهم، وإنه الغرور.
وأنّى لهؤلاء الذين لا يملكون إلا الإيمان والجهاد أن يقاوموا هذه القوى المتآلبة المجتمعة، والأسلحة المتنوعة المختلفة، وأن يصلوا إلى حقهم،وهم بين ذراعي وجبهة الأسد؟
سيقول كثيرون هذا، ولعل لهم بعض العذر،فهم قد يئسوا من أنفسهم، ويئسوا من صلتهم بالقوي القادر، أما نحن فنقول إنها الحقيقة التي نؤمن بها ونعمل لها، ونحن نقرأ قول الله تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ) (النساء:104).
وإن الذين فتحوا أقطار الدنيا، ومكن الله لهم في الأرض من أسلافنا لم يكونوا أكثر عددا، ولا أعظم عدة، ولكنهم مؤمنون مجاهدون، ونحن سنعتد اليوم بما اعتد به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال يبشر خبابا: (والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه) وكانوا إذ ذاك يستترون.
ويوم وعد سراقة بن مالك سوار كسرى، وكان مهاجرا بدينه ليس معه إلا الله وصاحبه.
ويوم هتف مطلعا على قصور الروم البيضاء، وقد حاصره المشركون في مدينته بجنود من فوقهم ومن أسفل منهم: (وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) (الأحزاب:10).
ثم ماذا كان بعد ذلك…..؟؟
كان أن أصغى مسمع الدهر لدعوة رسول الله، وترددت في فم الزمان آيات قرآنية، وأشرقت شموس الهداية في كل مكان من قلوب أصحابه وأتباعه، وعمّ الكون نور، ورفرف على الدنيا سلام، وتذوقت الإنسانية حلاوة السعادة بعدالة الحكم،، وأمن المحكوم في ظل هذا الرعيل الأول من تلامذة محمد صلوات الله عليه وسلامه، وفتحت قصور الروم، ودانت مدائن الفرس، ومدت الأرض بأعناقها، وألقت بجرانها وزويت أكنافها، واستسلمت مختارة للهداية المنقذة، ترف عليها أنفاس النبوة، وتمازجها أنفاس الوحي المقدس، وتحققت بها رحمة الله من كل جانب:
(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) (الأحزاب:25-27).
سنعتد أيها الناس اليوم بهذه العدة، وسننتصر كما انتصر أسلافنا بالأمس القريب، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ووسيتحقق لنا وعد الله تبارك وتعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) (القصص:5-6). (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60).
لو كانت لنا حكومة
لو كانت لنا حكومة إسلامية صحيحة الإسلام، صادقة الإيمان، مستقلة التفكير والتنفيذ، تعلم حق العلم عظمة الكنز الذي بين يديها، وجلال النظام الإسلامي الذي ورثته، وتؤمن بان فيه شفاء شعبها ووهداية الناس جميعا… لكان لنا أن نطلب إليها أن تدعم الدنيا باسم الإسلام، وأن تطالب غيرها من الدول بالبحث والنظر فيه، وأن تسوقها سوقا إليه بالدعوات المتكررة والإقناع والدليل والبعثات المتتالية، وبغير ذلك من وسائل الدعوة والإبلاغ، ولاكتسبت مركزا روحيا وسياسيا وعمليا بين غيرها من الحكومات، ولاستطاعت أن تجدد حيوية الشعب، وتدفع به نحو المجد والنور، وتثير في نفسه الحماسة والجد والعمل.
عجيب أن تجد الشيوعية دولة تهتف بها، وتدعو إليها، وتنفق في سبيلها، وتحمل الناس عليها، وأن تجد الفاشية والنازية أمما تقدسها، وتجاهد لها،وتعتز باتباعها، وتخضع كل النظم الحيوية لتعاليمها، وأن تجد المذاهب الاجتماعية والسياسية المختلفة أنصار أقوياء، يقفون عليها أرواحهم وعقولهم وأفكارهم وأقلامهم وأموالهم وصحفهم وجهودهم، ويحيون ويموتون لها.
ولا نجد حكومة إسلامية تقوم بواجب الدعوة إلى الإسلام، الذي جمع محاسن هذه النظم جميعا وطرح مساوئها، وتقدمه لغيرها من الشعوب كنظام عالمي فيه الحل الصحيح الواضح المريح لكل مشكلات البشرية، مع أن الإسلام جعل الدعوة فريضة لازمة، وأوجبها على المسلمين شعوبا وجماعات قبل أن تخلق هذه النظم، وقبل أن يعرف فيها نظام الدعايات: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
ولكن أنّى لحكامنا هذا، وهم جميعا قد تربوا في أحضان الأجانب، ودانوا بفكرتهم، على آثارهم يهرعون، وفي مرضاتهم يتنافسون؟ ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن الفكرة الاستقلالية في تصريف الشؤون والأعمال لم تخطر ببالهم،فضلا عن أن تكون منهاج عملهم.
لقد تقدمنا بهذه الأمنية إلى كثير من الحاكمين في مصر، وكان طبيعيا ألا يكون لهذه الدعوة اثر عملي، فإن قوما فقدوا الإسلام في أنفسهم وبيوتهم وشؤونهم الخاصة والعامة لأعجز من أن يفيضوه على غيرهم، ويتقدموا بدعوة سواهم إليه، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ليست هذه مهمتهم أيها الإخوان، فقد أثبتت التجارب عجزهم المطلق عن أدائها، ولكنها مهمة هذا النشء الجديد، فأحسنوا دعوته، وجدوا في تكوينه،وعلموه استقلال النفس والقلب، واستقلال الفكر والعقل، واستقلال الجهاد والعمل، واملأوا روحه الوثابة بجلال الإسلام وروعة القرآن، وجنّدوه تحت لواء محمد ورايته، وسترون منه في القريب الحاكم المسلم الذي يجاهد نفسه ويسعد غيره.
طبيعة فكرتنـا
أيها الإخوان المسلمون…
بل أيها الناس أجمعون…
لسنا حزبًا سياسيًا، وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا..
ولسنا جمعية خيرية إصلاحية، وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا..
ولسنا فرقًا رياضية، وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا..
لسنا شيئًا من هذه التشكيلات، فإنها جميعًا تبررها غاية موضعية محدودة لمدة معدودة، وقد لا يوحي بتأليفها إلا مجرد الرغبة في تأليف هيئة، والتحلي بالألقاب الإدارية فيها.
ولكننا أيها الناس: فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع، ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين.
نحن أيها الناس ولا فخر أصحاب رسول الله، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا، ورحمة الله للعالمين (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (صّ:88).
أيها الإخوان المسلمون
هذه منزلتكم، فلا تصغروا في أنفسكم، فتقيسوا أنفسكم بغيركم، أو تسلكوا في دعوتكم سبيلا غير سبيل المؤمنين، أو توازنوا بين دعوتكم التي تتخذ نورها من نور الله ومنهاجها من سنة رسوله، بغيرها من الدعوات التي تبررها الضرورات، وتذهب بها الحوادث والأيام.
لقد دعوتم وجاهدتم، ولقد رأيتم ثمار هذا المجهود الضئيل أصواتا تهتف بزعامة رسول الله وهيمنة نظام القرآن، ووجوب النهوض للعمل، وتخليص الغاية لله، ودماء تسيل من شباب طاهر كريم في سبيل الله، ورغبة صادقة للشهادة في سبيل الله.
وهذا نجاح فوق ما كنتم تنتظرون، فواصلوا جهودكم، واعملوا، (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد:35).
فمن تبعنا الآن فقد فاز بالسبق، ومن تقاعد عنا من المخلصين اليوم فسيلحق بنا غدا، وللسابق عليه الفضل.
ومن رغب عن دعوتنا، زهادة، أو سخرية بها، أو استصغارا لها، أو يائسا من انتصارها، فستثبت له الأيام عظيم خطأه، وسيقذف الله بحقنا على باطله فيدمغه فإذا هو زاهق.
فإلينا أيها المؤمنون العاملون، والمجاهدون المخلصون، فهنا الطريق السوي، والصراط المستقيم، ولا توزعوا القوى والجهود.
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153).