ما أحوجنا إلى هذا الترتيب الدعوي ، الذي يدل على إعمال الفكر ، وترتيب الإحداثيات المهمة فيه ، كي يكون العمل أنفع ، وأجدى ؛ ففي معرفة فروض الوقت ونوافله ، بركة من السماء ، فيكون ثمة القبول والتوفيق من عنده سبحانه وتعالى .
إن غياب هذا الفقه الجميل العالي ( فقه الأولويات ) يكون له آثار وخيمة ، سواء في الدعوة وهمومها ، أو فيما تؤول إليه ، وهذا الفقه محل غياب عند كثير من الدعاة الأماجد ، فضلاً عن عموم الأمة المباركة .
يقول الشيخ القرضاوي حفظه الله عن غياب هذا النوع من الفقه : ” هذا الخلل الكبير الذي أصاب أمتنا اليوم في معايير أولوياتها ، حتى أصبحت تُصغِّر الكبير ، وتُكبِّر الصغير ، وتُعظّم الهيّن ، وتُهَوّن الخطير ، وتؤخر الأول ، وتقدم الأخير ، وتهمل الفرض وتحرص على النفل ، وتكترث للصغائر، وتستهين بالكبائر، وتعترك من أجل المختلف فيه ، وتصمت عن تضييع المتفق عليه .. كل هذا يجعل الأمة اليوم في أمَس الحاجة ، بل في أشد الضرورة إلى فقه الأولويات لتُبدئ فيه وتعيد ، وتناقش وتحاور ، وتستوضح وتتبين ، حتى يقتنع عقلها ، ويطمئن قلبها ، وتستضيء بصيرتها ، وتتجه إرادتها بعد ذلك إلى عمل الخير وخير العمل ” . فقه الأولويات للقرضاوي.
ولو أننا مزجنا هذا الطرح الراقي ، مع نفحات رمضان، التي أُمرنا بالتعرض لها ، وما فيه من بركات ، نخلص إلى رباعية مائدة مباركة عالية ، يحرص كل داعية نبيل أن يعرضها ، إذ هو داعية لله تعالى على بصيرة .
أولاً: الدعوة إلى التقدم نحو القرآن الكريم ، تقدماً بفقه ونضج .
{ شهر رمضان الذي أُنزِل فيه القرآن هُدًى للنَّاس وبيِّنات من الهدى والفرقان } .
هذا هو المعلم الأول، هداية الناس، والحرص على تبيان الهداية لهم، وربطهم بمصدر هذه الهداية الربانية – القرآن الكريم – ومصدر الفرقان في كل شيء، في الأفكار والقيم، وفي النفس والروح، وفي عالم الضمير والسلوك.
إن هذا القرآن ليفرق بين المرء ونفسه بتلك الأنوار الهداية، وما فيه من مرافئ الفرقان في شواطئ الحياة المتلاطمة بالناس، وهو القرآن الذي أوجد هذه الأمة المباركة، وهو محفوظ لها من ربها، لتتكفل هي بالعمل به، وصبغ الحياة به، وهذا دور الداعية الأول الذي ينبغي أن يبرز له، شهر ينزل فيه القرآن، يكون للقرآن نصيب أوّلي فيه :
– بدءًا من تلاوة لكل حرف، فيها من الأجر عشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء، إذ هو سبحانه واسع عليم .
– وصعودًا إلى تدبر وتمعن في الخطاب الرباني لهذه الأمة المباركة.
– ودعوةً للناس إلى حسن النهل من هذا المعين الذي لا ينضب، أفرادًا وجماعات، وتقديم الأسس المنهجية للتفقه في حسن التلقي من ربنا سبحانه وتعالى.
– وترسيخًا لمبدأ الصلة القوية بهذا القرآن الكريم، بأنواع من الإبداع يتناولها الداعية.
ثانياً : إحياء وزرع معنى ( التقوى ) في نفوس الناس .
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } .
إذ واقع الناس بشكل فردي، أو جماعي، أو كل أمتنا المباركة، ليحتاج من نفحات رمضان المبارك أن نعمق هذا المعنى، هذا المعنى الذي يحقق للمؤمنين النجاة في الآخرة، ويضمن التماسك في سفينة المجتمع الذي يعيشون فيه، سواء المجتمع الكبير، أو في أضيق فهم له “الأسرة”، ولا يكونن طرح الداعية طرحًا وعظيّا حماسيّا آنيّ التأثير والتأثر، وإنما بطرح عميق، وفقه من حركة الحياة، وسنن الله تعالى التي بثها كسنن ثابتة لا تتغير، ومع توضيح هذه السنن، يكون طرح الأسس الهامة لنتائج “التقوى”، كمعايير للقياس.
قال تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } ، هذه سنة من سنن الله لا تتبدل ولا تتغير، فمن بعد الإيمان التقوى، لتكون البركات مفتحة الأبواب لأهل القرى المؤمنين.
وقال ربنا الحكيم: { ولباس التقوى ذلك خير } ، قاعدة ربانية تدعو الداعية لعرض هذا اللباس المبارك، الذي فيه الخير كل الخير، في بعد عن تبرج المعاصي والفساد، هذا اللباس المبارك، وذاك السفور المنفر، ينمو في حس كل مسلم حتى يُكوِّن مفهومًا عامّا لدى المدعوين.
و قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } هذا هو المعيار في تقييم الناس، وهذا هو المحدد الرئيس الذي تذوب معه الألوان والانتماءات الأخرى، وهو أساس التعارف، وأساس التقديم والتأخير، من بعد ظهور ملامحه في صور من العمل تترَى.
وبذا تشيع روح الإخاء الإيماني على قاعدة التقوى، و يلمس الناس هذا المعيار عند إسقاطه على الذين يقودون الأمة اليوم، وتُترَك لهم المقارنة، ويترك لهم تقييم المسار من بعد ذلك، بناء على البركات التي تُنزَّل، أو النكبات التي تصعّد، ولكل منها في حس الداعية توجيه وإرشاد.
وهي الزاد: { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } التقوى زاد في الحركة بهذا الدين يمنحه قدرة على السبق والفوز والمسارعة: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } ، { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } ، { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } وزاد في الآخرة حيت تُبَلى السرائر.
ويُتمّم هذا المفهوم بسُنَّة أخرى بثها ربنا سبحانه وتعالى في الحركة بهذا الدين: { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } ، فلن تكون التقوى بغير صلاح وإصلاح.
إن الحديث حول “سفينة المجتمع” والسنن التي تحكم مسيرتها سلبًا وإيجابًا، لهو من أولويات الدعوة المهمة لدى الداعية، إذ الشهر المبارك يلبسه، ليلبس هو لباسًا للتقوى والصلاح والإصلاح.
ثالثاً : عرض فقه التغيير الذكي .
فالناس كل الناس تسعى للتغير من أنماط حياتها، ومن رُزِق منهم الإخلاص، قد يعوزه بعض وعي ننثره عليه في هذا الشهر الكريم، إن إعداد منهج للتغيير يقوم على صعود إلى العمق النفسي في كل حناياه، وقد تكفل ربنا بهذا التشريع – الصوم – تكفل سبحانه بكتم جانب الشهوات في الإنسان، ليكون منه مزيد من المحاكاة النفسية التي تقوم عليها فلسفة الصوم في نفس المسلم، فيكون التغيير.
وربنا سبحانه غير سنناً كونية في رمضان ، ففتح لنا سبحانه أبواب الجنة ! ، وأغلق عز وجل أبواب أبواب النار ! ، وصفّد لنا الشياطين ! ، وليس هذا إلا تغييراً في رمضان ونفحات من رمضان ..
يقول الله عز وجل: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ، هذا هو التغيير الذكي في جانبه الإيجابي، جانب العطاء، وقال سبحانه: { ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } قال أهل التفسير: إن الله لا يسلب قومًا نِعَمَه حتى يغيروا ما بأنفسهم فيعملوا بمعصيته.
إن تحريك الفاعلية والإيجابية في نفس المسلم، وهو في عبادة هي كلها لله تعالى – الصوم لي وأنا أجزي به – سيكون له أثر كبير مضاعف بحول الله تعالى، وهو التغيير الذكي الذي نعني، وعند طرحه على الناس بقواعده وأسسه ومقدماته ونتائجه، سيكون الذكاء في التغيير هو الباب الكبير الذي تلج منه الأمة إلى أمجادها، تغييرًا في النفس والروح، وتغييرًا في الفكر والوعي، وتغييرًا في الآفاق والآمال، وتغييرًا في اللباس والزاد.
لقد توارد معنى الإيجابية، وتكرر في القرآن الكريم بصور شتى وأساليب متنوعة، ليتركز مفهوم فردية التكليف، و بالتالي ذاتية العمل، وما ينعكس عن ذلك من تثبيت مفهوم إيجابية الداعية في العمل والمثابرة، ومنها أوضح آية في كتاب الله تعالى، تحدد معنى الإيجابية، ألا وهي قوله تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تكلَّف إلا نفسك وحرض المؤمنين } ، والمعنى واضح في أمر الله تعالى لنبيه في عدم تكليف أحد إلا نفسه، وألا ينتظر إعانة من أحد، رغم أن المعلوم من الشريعة أن الأمة كلها مكلفة بالجهاد، ولكن المعنى أن يفترض كل مسلم من الأمة – والقدوة في ذلك نبيها صلى الله عليه وسلم – أنه وحده المكلف بالأداء، وأن الله قادر على نصره، وينحصر واجبه في تحريض المؤمنين.
ولينطلق كل فرد من المدعوين بصور من التفاعل مع مجتمعه، ومساعدة الناس وحل مشكلاتهم، ونُعلّم الناس الإبداع، في ضرب مثال بذاك الصحابي الجليل الذي أبدع في مواجهة حال المسلمين في معركة القادسية، يقول القرطبي في تفسيره : ” وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها، فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أُقتَل ويُفتَح للمسلمين ” .
ونرسخ في الناس تخطيط هذه الإيجابية من خلال عرض الدوائر الثلاث في نفس كل مسلم :
* دائرة الذات :
فهمًا وتطويرًا وعلمًا وعملاً ، وحياةً في ظلال قرآن كريم ، واقتداءً دائمًا متحركًا بنبي كريم وصحب أماجد . . المرء منا مسؤول عن نفسه أولاً عن قلبه عن روحه عن عقله وفكره ووعيه ، وعلى هذا سوف يسأل ابتداء … { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } ، { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } .
* دائرة التأثير:
في المحيط الدعوي لكل مسلم مع من حوله، كلٌ بحسب حاله وواقعه، تبدأ الدائرة من البيت والأهل، { قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة } وتتسع الدائرة: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ) متفق عليه، (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في مال الزوج ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) متفق عليه، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه، ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُربة فرَّج الله عنه بها كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة ) رواه مسلم، (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) رواه مسلم، ( ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به ) رواه الطبراني والبزار بإسناد صحيح، ( يا أبا ذر، إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف ) رواه مسلم.
* دائرة الاهتمام:
بشئون الأمة العامة والخاصة، وفق تصور ناضج، قد يصل إلى دائرة التأثير ويرتقي لها، { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } ، ( من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح و لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) رواه الحاكم وصححه السيوطي.
ووفقا لهذه الإيجابية، وهذه الدوائر التربوية يكون العطاء المنهجي العالي ، من غير تقيد بطبخة أو أكلة ترسل لجار ، وهذا حق ، إنما الحصيف من يبدع بما يقتضيه الحال !
رابعاً : آمال الأمة وليس آلامها .
ففي شهر رمضان المبارك العديد من الأحداث الهامة في تاريخ أمة الإسلام المباركة ، ففيه بدر الكبرى ؛ يوم الفرقان ، وفيه الفتح الأكبر ؛ فتح مكة ، وفيه فتح الأندلس ، وفيه عيون المعارك ؛ عين جالوت .
والداعية الفقيه لا يعرض هذه الأحداث سردًا قصصياً ، يداعب به نفوس الناس ، ويجعلهم يعيشون مع دغدغة التاريخ وأمجاده ، كلا ، بل يربط بين حال المسلمين في أيام التتار ، وما وصل إليه حالهم في تلك الفترة، وسبب ذلك التراجع ، وكيف نهضت الأمة ، وزيحت عنها الغُمة المغولية ، وكيف دخل معظم التتار في دين الله تعالى ، من خلال قوة المسلمين ، ومن خلال حسن التعامل معهم ، هذا ، مع التغول الحالي لقوى الظلم والقهر اليوم ، ومهما وصل الحال ، ومهما ضاق الأمر على الأمة، سيكون لها عين كعين جالوت ، تتجلى فيها نفوس المؤمنين التقية ستارًا لقدرة الله بنصرة دينه سبحانه وتعالى.
ولن يكون الفرقان لهذه الأمة لتشق طريقها في الحياة والممات ، إلا بذلة لله تعالى وأوبة له وفرار إليه : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } ، فلا هو الإعداد المادي فحسب ، بل يقدم عليه إعداد النفوس لتكون أهلاً للفرقان في حياتها .
فقد نشر المسلمون العلوم في أندلس جميلة وأشاعوا فيها العدل والعلم ، وأسسوا المنابر للدنيا كلها ، دون احتكار أو هيمنة، هذا ، وبعد أن تفشت الخلافات ، ونزلت الاهتمامات عند قادة المسلمين ، سلب منهم كل شيء ، تلك دروس يطول بسطها ها هنا ، ولكل داعية عالي الوعي مزيد علم ونضج يبثه للناس .
نربط ذلك كله بما يجري اليوم على الساحة الإسلامية، وما يعصر قلب المؤمن من ألم فيها ، غير أننا ندفعه بأمل في تحقيق تلك الأمة للقوانين والسنن ، مع تفاعل معها الآن ، إذ نحن حملة الأشرعة البيضاء ، مهما جرت الرياح بما لا نشتهي .
فها هي أماكن مقدسة تنتهك فيها حرماتنا، ويدنسها يهود وأعوانهم، نرفع من الاهتمام بها في قلوب الناس، ونعرض لهم الخبر اليقين فيها ، نحرك إيمانهم للتفاعل معها بكل ما يقدرون عليه ، من دعم مادي لمستحقيه من الضعاف ، ولمستحقيه أكثر من الأقوياء المجاهدين على أرض الإسراء والمعراج ، وهو الدعاء لهم في كل وقت فرادى وجماعات ، مع تعبيرات حضارية على هيئة اعتراضات لما يجري ، كل في بلده ، وما يتاح له من الأعمال الحضارية التي تبني المجتمعات ولا تهدم الدعوة ! .
في فلسطين ، المجاهد الفلسطيني زلزل الأرض من تحت أقدام اليهود ، وهم متمكنون في أرضه ، بمدنهم وقراهم ومستوطناتهم ، وجيوشهم النظامية والاحتياطية ، وأسلحتهم الفتاكة الجوية والبرية والبحرية ، وتقف من ورائهم الدولة الأمريكية الظالمة بالمال والاقتصاد ، والإعلام والسياسة والدبلوماسية ، ولكن الشعب المجاهد يقف بكل شجاعة واستبسال ، أمام تلك القوة العاتية ، لا فرق بين شاب وشابة ، ورجل وامرأة ، زلزلوا أقدام العدو ، بإمكانات مادية ضعيفة ، ولكن بقلوب أفرغ الله عليها من الصبر، ما جعلها رابطة الجأش مطمئنة عند لقاء العدو الغاشم ، وأجساد نحيفة نحيلة ، ولكنها أشد ثباتًا من الجبال الصخرية الراسية .
دمر اليهود منازلهم ، وقصفوا مستشفياتهم ، وقطعوا أشجارهم ، وأغلقوا مدارسهم ، وجرفوا طرقهم ، وقتلوا منهم من قتلوا ، وأسروا من أسروا ، واغتالوا من اغتالوا ، وحاصروهم حصاراً قَلَّ أن يوجد له في العالم نظير ، ومنعوهم الطعام والشراب والكساء والدواء ، ورغم ذلك كله صمدوا ، وأرعبوا العدو ، وجعلوه يقف عاجزًا ، أمام أفراد قليلين من الشباب المسلم المجاهد ، الذي تخطى الحواجز المتصل بعضها ببعض ، وأجهزة الأمن والجيش الذين لا يخلو منهم شبر من الأرض ، ووصلوا إلى حيفا وقلب تل أبيب والخضيرة، وغيرها من المدن والمستوطنات المحصنة ، وقاموا بهجماتهم الاستشهادية التي أعلن اليهود عجزهم عن الوقاية منها ؛ لأن رجال فلسطين ونساءها ينفذونها بأجسادهم ، رغبة في لقاء ربهم شهداء ، ملبين داعي النفير في سورة النساء و سورة آل عمران ، وسورة الأنفال والتوبة ، وسورة الأحزاب وسورة الحشر .
كل هذه البطولات وهذا الصمود يريد دعمًا نفسيّا بالدعاء ، ودعما ماديّا بالمال ، ولتكن قضية فلسطين وقدسها المباركة قضية الأمة في هذا الشهر المبارك ، بتفاعل وإعلام وإنفاق مال، ودفع الزكوات للمجاهدين النبلاء.
وفي بلاد الرافدين العراق الحبيب، يراد له اليوم الخراب من قوى الظلم والطغيان، ولن يتورعوا عن تدميره وعمل كل مشين فيه ؛ تلك عراق دار السلام ، عراق دار الخلافة ، وإن سادها الظلم قبلهم ، تظل داراً للسلام عندنا ، ومنبع الحكمة قديماً .
إن نصرة إخواننا في العراق لهي من أكبر القضايا الأولية الآن ، وقد بدأت الفضائح للعدو تطغى عالمياً ، لكن أيضاً بدأت لمعات سيوف المقامة تثخن فيهم ، برغم الأخطاء وبرغم التشويه ، يظل خيار المقاومة المنهجية هو خيار أهل العراق وكل من يحب الخلافة ودارها .
حمزة الذي لا بواكي له : ليبيا ، فاليوم خيرة أبناءها في سجون الظلم ، من بعد صبر وتحمل لسنوات من القهر داخل السجون ، ها هم اليوم أولئك الرجال العلماء يضربون على الطعام في ضرب لصورة من التضحية والبذل أخرى ، وفي تعتيم إعلامي كبير على قضيتهم ، ومماطلات للمحاكمات الهزيلة التي طرفيها في أيدي أهل الظلم والتخلف ، مَن لحمزة ليبيا ؟؟ من له إن لم يتكلم الدعاة والعلماء وطلاب العلم ! مَن سيبين للناس حقيقة ما يجري لخيرة أهل البلد الأنقاء أصحاب الأيادي المتوضئة ، هذا هو دور الدعاة والعلماء وطلاب العلم و كل ناشط إسلامي ، إنها بلد المختار يا سادة ، ولسوف تسألون ..
علينا – أيها الدعاة – أن نُفعّل هذه الموضوعات في تيار عام نصنعه ، ونعطي الناس الخبر الصحيح في فقهها ، وكيفيه نصرتها ، وفضح كل ظالم ومتعاون وصامت ، ورفع الأيادي في القنوت في جماعة المسلمين بالدعاء لإخواننا جميعاً ، وأمر الدعاء لا يستهان به ، فقد زلزل الروس في غزوهم للشيشان ، وطلبوا منعه ، فنكثر منه على الملأ ، ونحرض الأمة على الإخلاص فيه، فهذا أقل ما يجب ، فضلاً عن مال وزكوات ، وضغط إعلامي ، ونشر لهذه القضايا ولو بشق كلمة !!
ومن المهم أن نقرر في أذهان الناس أنه مهما تكالبت علينا الأمم ، ومهما كثر الظلم وعم القهر: { لن يضروكم إلا أذى } ، وهم { أحرص الناس على حياة } ، { ويمكرون ويمكر الله } ، وحقيقة : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } لكن إيماننا قوي لأن: { وعند الله مكرهم } .
هذه قوانين ربانية تتعلمها الأمة من الداعية إذ هو يدلها على أبواب الصعود بذكاء.
أيها الداعية، إن إشاعة الحب الوثيق بكافة أنواعه لهو بدء الأمر، حبّا لله تعالى ولرسوله ، ولهذا الدين المبارك ، وما يحمل هذا المعنى من القرب لله تعالى في صنوف شتى ، وتأسياً بنبي كريم عليه الصلاة والسلام ، وتعميقاً للولاء لهذا الدين ، ولو كره الكافرون ، ولو كره الخانعون ، ولو كره الظالمون !
حبّا للناس والاقتراب منهم ، ولمس مشكلاتهم ، وحلها بلغة العمل الفصيح ، وتفريج الكربات عنهم ، من بعد تعلميهم سنن الله وقوانين حركة الحياة ، والدلالة على ضروب الذكاء الاجتماعي ، ومنها التغيير ، وربطهم بكتاب أُنزل لهم في رمضان .
وفي رمضان نفحات ومعانٍ يراد لها بسط ، غير أن تلك الرباعية أراها الدرجات الأُوَل على سلم الأولويات ، والله وليّ السداد لداعية فقيه ، أنار عقله فقاد ، وبكى في محرابه وانقاد .