المقصود بالازمة الدستورية للحضارة الاسلامية تلك الهوة الاخلاقية العميقة بين القيم السياسية التي جاء بها الاسلام في مجال بناء السلطة السياسية وادائها، والتجربة الامبراطورية الاسلامية التي ابتعدت كثيرا عن تلك القيم.
كما أن لفظة “دستور” في العنوان لا تعني ما هو شائع في القانون الدستوري والعلوم السياسية المعاصرة؛ باعتباره وثيقة محددة تنظم شؤون الحكم، وتوزع السلطات والصلاحيات، بل المقصود “طريقة بناء المجتمع والدولة” بشكل عام .
فالازمة الدستورية في الحضارة الاسلامية –التي تتناولها هذه الدراسة كما يؤكد المؤلف– هي ظاهرة الخروج المبكر في تاريخ المسلمين عن مقتضيات القيم الدستورية الاسلامية المنصوصة في الكتاب والسنة، وما تركته تلك الظاهرة من فجوة وتوتر دائم بين معايير الحق السياسي في النص الاسلامي كما تشربه الضمير المسلم، وممارسة السلطة في تاريخ المسلمين وواقعهم. ثم ما ترتب على ذلك من إخلال الحكام بمسؤولياتهم تجاه الامة، وما أدى ذلك الى صراع استنزف الحضارة الاسلامية.
تشير العلوم السياسية المعاصرة الى ان ازمة الشرعية السياسية في اصلها ذات طبيعة بنائية، وقد تكون ذات طبيعة أدائية احيانا؛ فـ”البنائية” تتعلق بانعدام التراضي السلمي، وعجز القوى الاجتماعية عن التواضع على صيغ عملية سلمية لتداول السلطة ابتداءً. و”الأدائية” تتعلق بعجز السلطة القائمة او خيانتها أمانة الحكم بعد ان تتقلده.
فالاولى سببها نقص الاجماع على القيم السياسية التأسيسية، والثانية سببها الغدر بتلك القيم المعترف بها ميثاقا اخلاقيا وقانونيا بين الحاكم والمحكوم.
ويرى مالك بن نبي أن سبب انحطاط الحضارة الاسلامية يرجع الى ازمتها الدستورية المزمنة التي بدأت بانهيار الشرعية السياسية في الفتنة الكبرى منتصف القرن الاول الهجري. يعني ان الانحطاط الذي اكتمل بعد ثمانية قرون -حسب تقديره- كان حصاد تراكمات بذرت بذرتها في معركة صفين.
ان مجمل القيم السياسية الاسلامية تنصب في مسار واحد، وتتجه وجهة واحدة هي “التأمر بالأمير”؛ أي: تحكم الامة في حكامها من حيث اختيارهم ابتداء بكل حرية، والمشاركة معهم في صناعة القرار بعد ذلك، ثم محاسبتهم إن قصروا، وعزلهم إن انحرفوا او عجزوا.
و”التأمر” من غير إمرة، عدم التأمر بالامير هو ما يمكن ان يحدث في ظرف استثنائي وبحكم الضرورة المؤقتة، كما حدث في معركة مؤتة بتولية خالد بن الوليد، فيتم التنازل عن الشرعية السياسة؛ حفاظًا على وحدة الامة في ظرف غير طبيعي واستثنائي، ولابد ان تعود الامور بعد ذلك الى المسار الطبيعي وهو: حق الاختيار والمحاسبة والعزل.
لكن تاريخ المسلمين كان بعد الخلافة الراشدة حتى الآن هو التأمر في غير إمرة (كما ورد في الحديث عن غزوة مؤتة)؛ فأصبح الاستثناء هو الدائم، والمطالبة بحق الامة في الاختيار فتنةً! والحكام المستبدون يسعون دائمًا الى تأييد حالة الضرورة؛ تسويغًا لبقائهم في السلطة.
يتبع…..