من أسف أن الجدل العام المتفجر في الكيان الصهيوني في إطار الحملة الدعائية التي تنظمها الأحزاب الإسرائيلية عشية الانتخابات الحاسمة التي ستنظم الشهر الجاري لا تثير الكثير من الاهتمام في العالم العربي، رغم خطورة دلالات اتجاهات هذا الجدل، وفي ظل تداعيات النتائج الدرامتيكية التي يمكن أن تسفر عنها هذه الانتخابات. وإن كان بات من نافلة القول إن الشعب الفلسطيني وقضيته هما الأكثر تضررا دوما من نتائج أية انتخابات تجرى في الكيان الصهيوني، بغض النظر عن الهوية الأيدلوجية للأحزاب التي ستشكل الحكومات في تل أبيب، فإنه يمكن القول بثقة إن الأردن سيكون الأكثر تضررا من اتجاهات الجدل العام في الحملة الانتخابية الحالية وما يترتب عليها من نتائج.
ويبدو أن التحدي الذي سيواجه الأردن بعد الانتخابات مركب ومعقد إلى حد كبير، حيث إن عددا من مصادر التهديد تبدو مرشحة للبروز وبقوة بناء على ما يصدر عن الأحزاب والحركات التي يرجح أن بعضها سيكون مركبا رئيسا في الحكومة الصهيونية القادمة.
ويمكن تلخيص مصادر التهديد التي ستواجه الأردن في ثلاثة اتجاهات رئيسة:
أولا: زيادة قوة وحضور الأحزاب والحركات والنخب السياسية اليمينية التي تطالب علانية بالتعامل على أساس أن الأردن هو الدولة الفلسطينية. بعض هذه الأحزاب تعبر عن هذا التوجه بشكل واضح وصريح، مثل حركة «المنعة اليهودية»، التي يقودها إيتمار بن غفير، وبعضها يهدف إلى تحقيق ذلك بشكل موارب من خلال طرح فكرة الكونفدرالية بين الضفة والأردن التي تلزم الأردن بالسيطرة على التجمعات السكانية الفلسطينية بما يسمح للكيان الصهيونية باحتكار السيطرة على الأرض الفلسطينية، مثل حزب «يمينا» بقيادة وزيرة القضاء السابقة إياليت شاكيد، وهي الفكرة التي يؤيدها عدد من كبار وزراء الليكود.
حركة «المنعة اليهودية» لا تقترح فقط الانتظار حتى يتم التوافق بشكل سياسي على التعامل مع الأردن كدولة فلسطينية، بل إن برنامج الحركة يدعو إلى طرد الفلسطينيين للأردن وغيره من الدول العربية، لكي يتم تكريس هذا الخيار بشكل عملي وبدون الانتظار إلى موافقة هذا الطرف العربي أو ذاك.
من المفارقة أن رئيس الحكومة الصهيوني بنيامين نتنياهو الذي يدعي حرصا على استقرار الأردن ويكيل المديح للتعاون معه في كل المجالات، يعمل حاليا وبشكل جلي على ضمان تمثيل حركة «المنعة اليهودية» في البرلمان القادم، ولم يحدث أن تطرق بأي شكل من الأشكال لبرنامجها الخطير.
ثانيا: لكن حتى بدون الأفكار التي تتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر مع الأردن كالدولة الفلسطينية المستقبلية، فإن تعهد نتنياهو الصريح بضم جميع مستوطنات الضفة الغربية لإسرائيل يعني عمليا ضم منطقة «ج»، التي تمثل أكثر من 60% من الضفة الغربية، وهو ما يعني تقليص الفضاء الجغرافي أمام الفلسطينيين وتجفيف البيئة الاقتصادية هناك، مما سيرغم الكثيرين منهم للتوجه للإقامة في الأردن، وهذا يفضي بشكل مباشر إلى تغيير الواقع الديموغرافي في الأردن بما يتوافق مع المصالح الصهيونية؛ إلى جانب أن هذا السيناريو سيفاقم الأوضاع الاقتصادية في الأردن سوءا.
ثالثا: إحداث طفرة على مشاريع التهويد التي تستهدف المسجد الأقصى بشكل غير مسبوق. فمن المفارقة أن قطع التعهدات بإحداث تحول على مكانة الأقصى وفرض السيادة الصهيونية عليه لا يقتصر على ممثلي الأحزاب الدينية واليمينية فقط، بل يتعداه إلى الأحزاب التي تدعي تمثيل الوسط الصهيوني، مثل حزب «أزرق أبيض»، بقيادة الجنرال بني غانز.
ويكفي هنا فقط الإشارة إلى الانتقادات التي يوجهها كل من بوعز هندل وتسفي هاوزر، من قادة «أزرق أبيض» لنتنياهو بحجة أنه «متردد» في حسم مصير الأقصى (يطلقون عليه جبل الهيكل) بوصفه المكان الأكثر قدسية لليهود، على حد زعمهم.
في الوقت ذاته، فإن الكثير من القيادات اليمينية الصهيونية قد تعهدت خلال الحملة الانتخابية بتصفية دور الأردن كحارس للأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، على اعتبار أن هذا الدور يقلص من قدرة الكيان الصهيوني على حسم مصير المدينة والأقصى.
ومن الواضح أنه حتى في حال تم تطبيق جزء من هذه التعهدات بعد الانتخابات، فإن ذلك سيمثل تحديا كبيرا للأردن الدولة وسيحرج النظام ويقلص هامش المناورة أمامه بشكل غير مسبوق.
صحيح أن هناك إجماعا بين قادة الأجهزة العسكرية والأمنية والاستخبارية الصهيونية على أهمية التعاون الأمني والاستخباري والإستراتيجي مع الأردن، إلى جانب تأكيد الكثير من المستويات الإسرائيلية على أهمية التعاون الاقتصادي، الذي يدر مليارات الدولارات على خزانة الدولة، بشكل مباشر من خلال عقد شراء الغاز، أو بشكل غير مباشر عبر مناطق التجارة الحرة التي تسمح للمصانع الصهيونية باستغلال الأيدي العاملة الرخيصة في الأردن؛ إلى جانب توظيف الأردن كبوابة تمكن إسرائيل من تصدير بضائعها إلى العديد من الدول الخليجية.
لكن على الرغم من ذلك، فإن الذي يقرر السياسة في النهاية هي النخب الحزبية التي تصل للحكم، وهذه النخب الهاذية غير مستعدة للتوقف عند عوائد الشراكة الأمنية والاقتصادية مع الأردن، بل معنية باستنفاذ الطاقة في برامجها الأيدلوجية بكل ثمن، منطلقة من افتراض مفاده أن البيئة الإقليمية والدولية تسمح لها بتحقيق هذه الأهداف.
ومن الواضح أن وجود إدارة مثل إدارة ترامب في واشنطن، التي تتماهى بشكل غير مسبق مع الأحزاب والحركات اليمينية الصهيونية بشقيها العلماني والديني، يجعل هذه الأحزاب وتلك الحركات ترى في هذه الإدارة أداة يمكن توظيفها في احتواء ردة الفعل الأردنية من خلال توظيف روافع الضغط الاقتصادي وغيرها.