تنتشر من حين لآخر الكثير من الأفهام الخاطئة والأخطاء الشائعة حول تركيا، ولعل أحد أكثرها انتشارها وأطولها بقاءً ذلك المتعلق باتفاقية لوزان، التي مما أذكى الحديث عنها مؤخراً مرور ذكرى توقيعها وكذلك التوتر الحاصل في شرق المتوسط بين تركيا واليونان.
تقول الأسطورة/ الخرافة إن الاتفاقية ستنتهي في 2023، أي بعد مئة سنة من توقيعها، بما يحرر تركيا من القيود التي غلّت أيديها طيلة القرن الفائت فيما يتعلق بحدودها ومضائقها وحقها في التنقيب عن الثروات الطبيعية. ووفق هذا الادعاء، يؤهل ذلك تركيا لأن تعود قوة عالمية أو عظمى كما كانت الدولة العثمانية سابقاً، مستدلاً بحديث اردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم عن أهداف عام 2023، ومصطلح “الجمهورية الثانية” المستخدم من قبل بعض الكتاب والباحثين.
كانت الدولة العثمانية آخر الدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى توقيعاً لاتفاقية صلح/ استسلام مع الدول المنتصرة. حصل ذلك في 10 آب/ أغسطس 1920 في معاهدة سيفر، التي رفضها مجلس الأمة التركي الكبير، بل وحُكم على الموقعين عليها وعلى الصدر الأعظم بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، ثم قامت حرب الاستقلال التركية التي قادت في النهاية إلى اتفاقية لوزان عام 1923.
كانت لوزان بالنسبة لتركيا أفضل بكثير بالتأكيد من معاهدة سيفر، لكنها من جهة أخرى ظلمتها في كثير من القضايا، كما هو متوقع من اتفاقية أتت في ظرف عالمي تلا الحرب العالمية الأولى. ويمكن عدُّها تعديلاً على إجحاف سيفر الكبير، لكن دون تغيير جذري على كون الدولة العثمانية إحدى القوى الخاسرة في الحرب.
من جهة ثالثة، رسمت الاتفاقية حدود تركيا الحالية إلى حد كبير، ولذلك ولأسباب أخرى ثمة اختلاف في تقييمها بين التيارات التركية. فهناك من يراها رمزاً لتأسيس الجمهورية وبالتالي فهو يحتفي بها جداً، مثل حزب الشعب الجمهوري، وبين من يراها (إضافة لذلك) حَرَمَتْ تركيا من كثير من حقوقها وبالتالي يقف في صف المنتقدين له، مثل حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان.
وقعت الاتفاقية في 24 تموز/ يوليو 1923، وشملت 143 مادة موزعة على أقسام رئيسة، مثل حدود الجمهورية التركية، وعلاقاتها بالدول الأخرى، والمضائق، ووضع الأقليات غير المسلمة، وتعويضات الحرب، وديون الدولة العثمانية، وصولاً لكثير من البنود الداخلية المتعلقة بالمحاكم والصحة وما أشبه.
في الرد على الأخطاء الشائعة المتعلقة بالاتفاقية، يمكن ذكر ما يلي:
أولاً، ليس هناك أي تقييد زمني للاتفاقية، شأنها شأن الاتفاقيات الدولية المشابهة، لا بمئة عام ولا غير ذلك، وهو ما يمكن لأي باحث أن يتأكد منه من نص الاتفاقية الأصلية باللغة الفرنسية أو ترجماتها، وبالتالي فليس صحيحاً أبداً أنها تنتهي عام 2023.
ثانياً، باستثناء الحدود مع العراق التي تركت للتفاوض مع بريطانيا ولواء الإسكندرون/ هاتاي الذي انضم لتركيا عام 1939 بعد استفتاء شعبي، فقد رسمت الاتفاقية حدود تركيا الحالية. فكيف يمكن إلغاء اتفاقية رسمت حدود الدولة؟
ثالثاً، هناك إشارة لحرية الملاحة والمرور عبر المضائق التركية في الاتفاقية، إلا أن موضوع المضائق عاد ونُظِّمَ في اتفاقية مونترو عام 1936. وبالتالي، ليس صحيحاً أن إلغاء لوزان سيمكن تركيا من التحكم بالمضائق والملاحة عبرها بشكل مختلف.
رابعاً، ليس هناك أي إشارة في الاتفاقية لحق تركيا في التنقيب عن الثروات الطبيعية، وبالتالي فالاتفاقية لم تحرمها من هذا الحق. ولعل أبرز دليل على ذلك أنها بدأت مساعيها في هذا الاتجاه منذ سنوات، أي قبل 2023.
خامساً، رغم أن الاتفاقية شملت تنازل تركيا عن السيادة على مناطق واسعة كانت تحت سلطة الدولة العثمانية، فليست هناك إشارة لإلغاء الخلافة في الاتفاقية. هذا الأمر حصل لاحقاً بقرار من مجلس الأمة التركي الكبير (لبرلمان) في الثالث من آذار/ مارس 1924، في سياق علمنة الدولة.
سادساً، إحالة حزب العدالة والتنمية على عام 2023 ليست مرتبطة بالاتفاقية، وإنما هي رمزية مرور قرن على تأسيس الجمهورية التركية، وانتقالها إلى طور جديد يعبر عنه بتركيا الجديدة أو تركيا القوية. وأما مصطلح “الجمهورية الثانية” فهو يستخدم للإشارة إلى التغييرات الداخلية التي أجراها الحزب في البلاد، لا سيما على صعيد الهوية والعلمانية وما إلى ذلك.
سابعاً، وفق إمكاناتها الحالية، وحتى بافتراض اكتشافها النفط والغاز، لا تملك تركيا مقومات أن تكون قوة عظمى. تذكر دراسات العلاقات الدولية معايير تتوفر للقوى العظمى، بعضها بشري يرتبط بعدد السكان، وآخر اقتصادي يتعلق بالمساهمة الفاعلة في الاقتصاد العالمي والمؤسسات الاقتصادية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبعضها سياسي مثل حق النقض (الفيتو) للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وامتلاك سياسة خارجية متدخلة ومؤثرة في الدول الأخرى، وبعضها عسكري مثل امتلاك سلاح نووي.. الخ.
ومن الواضح أن تركيا لا تتوفر على هذه المعايير، ومن الصعب أن تمتلك معظمها مستقبلاً، ما يعني أن أفقها هو التحول لقوة إقليمية رائدة وفاعلة في محيطها، أي أن تكون “دولة مركز” بتعبير أحمد داود أوغلو، وليس قوة عالمية عظمى.
في الخلاصة، لا تنتهي صلاحية اتفاقية لوزان عام 2023، ولا يغير ذلك التاريخ شيئاً بالنسبة لتركيا من زاوية الاتفاقية نفسها. لكن ذلك لا يعني أنه ليس هناك متغيرات محتملة.
لقد ألحقت هذه الاتفاقية ومثيلاتها بتركيا غبناً بيّناً، وخصوصاً في ما يتعلق بجزر بحري إيجه والمتوسط. ذلك أنها أعطت السيادة على بعض الجزر العثمانية والقريبة من البر التركي لإيطاليا، والتي تنازلت بدورها عنها لليونان بعد الحرب العالمية الثانية. ولعل جزيرة ميس (كاستيلاريزو باليونانية) الصغيرة أبرز مثال على ذلك، حيث تبعد عن تركيا حوالي 2 كلم وعن اليونان حوالي 580 كلم، لكنها جزيرة يونانية.
ترك ذلك أثره على تركيا وما زال، ولعل تأثيراته قد اتضحت مؤخراً في الصراع على الغاز في شرق المتوسط، حيث تحاول اليونان، ومعها بعض الأطراف، حبس تركيا وحقوقها في شريط ساحلي ضيق جداً من باب منح الجزر (حتى الصغيرة منها) حقوقاً متساوية مع الدول المطلة على البحر.
إن ترسيم الحدود البحرية، بما فيها المناطق الاقتصادية الخالصة والجرف القاري، وفق منطق اليونان الداعي للتنصيف يُخسر تركيا (التي تدعو للإنصاف) الكثير جيوسياسياً، وكذلك في مجال أمن الطاقة، وهي الدولة الإقليمية الكبيرة التي تستورد أكثر من 90 في المئة من حاجتها من مواد الطاقة.
هذا الظلم التاريخي لا يمكن تعديله بادعاء انتهاء مدة الاتفاقية، كما لا يمكن تغييره أصلاً دون قلب التوازنات في المتوسط والمنطقة رأساً على عقب. إن تنازع تركيا واليونان حول السيادة على جزيرة صغيرة جداً في بحر إيجه (يسميها الأتراك “صخور كارداك” لصغرها) كاد أن يشعل حرباً بين البلدين عام 1996.
وبالتالي، فتغيير الحدود الحالية والسيادة على الجزر أمر قد يتم باتفاق جديد بين تركيا واليونان مثلاً، أو بتحكيم دولي بين الجانبين، وهما أمران مستبعدان حالياً، أو بشراء تركيا بعضاً منها كما حصل سابقاً بين بعض الدول، أو نتيجة لحرب يمكنها تغيير الخرائط وموازين القوى.
احتمالات التصعيد العسكري في شرق المتوسط ارتفعت مؤخراً إثر ازدياد الخلافات وتعارض المصالح، وتدخل أطراف إضافية، والتحشيد من الطرفين والاحتكاك المستمر بينهما، وتسليح اليونان لبعض الجزر. لكن أياً منهما لا يريد الحرب، فهما تدركان ارتداداتها الكارثية، وكذلك احتمالات توسعها وتدخل أطراف أخرى فيها، فضلاً عن جهات وآليات عديدة يمكنها التوسط وتخفيف حدة الخلاف بينهما، مثل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي ودول مثل ألمانيا والولايات المتحدة.
وعليه، ما زال سيناريو تغيير الحدود من خلال الحرب، بافتراض حصول ذلك، احتمالاً ضئيلاً كذلك. وأما بناء تركيا القوية الجديدة فتسير فيه البلاد في السنوات الأخيرة، وقد قطعت فيها شوطاً لا بأس به، من خلال تعظيم القوة الذاتية في مختلف المجالات، لا سيما العسكرية والصناعات الدفاعية، والانخراط أكثر وأعمق في قضايا المنطقة وأزماتها، لإثبات أنه لا يمكن تجاهل مصالح تركيا، ولا رسم توازنات ومعادلات جديدة في المنطقة دون إشراكها، وفق ما يقول المسؤولون الأتراك.