أيها الأحرار الكرام..
قد أعلنها الإمام المؤسس مدوية في الوجود عالية في السماء واضحة للعيان، دون تلوّن أو خداع، بل واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، مخاطبًا الإخوان بوصيته، قائلاً: أيها الإخوان المسلمون، اسمعوا: أردت بهذه الكلمات أن أضع فكرتكم أمام أنظاركم؛ فلعل ساعات عصيبة تنتظرنا يحال فيها بيني وبينكم إلى حين؛ فلا أستطيع أن أتحدث معكم أو أكتب إليكم، فأوصيكم أن تتدبروا هذه الكلمات وأن تحفظوها إذا استطعتم، وأن تجتمعوا عليها، وإن تحت كل كلمة لمعاني جمة..
أيها الإخوان.. أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبًا سياسيًّا ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد. ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة، فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مرددًا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الحق الذي لا غلوَّ فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس. إذا قيل لكم إلام تدعون؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم: هذه سياسة! فقولوا: هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام. وإن قيل لكم: أنتم دعاة ثورة، فقولوا: نحن دعاة حق وسلام، نعتقده ونعتز به، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا، فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين. وإن قيل لكم: إنكم تستعينون بالأشخاص والهيئات فقولوا: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ (غافر:84)، فإن لجّوا في عدوانهم فقولوا: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾(القصص:55) (رسالة بين الأمس واليوم).
نعم.. أنتم أيها الأحرار هذه الروح التي تسري في قلب هذه الأمة.. أنتم مثال العطاء المادي بصمودكم والزاد المعنوي بالرحمة والهداية، أنتم نموذج مشرف مُلهم لمن حولكم بمعاني الحرية والتضحية والثبات على المبدأ رغم الألم والمعاناة، وما ذلك إلا بركائز الخير تشع من جنبات نفوسكم المشحونة بروح القرآن ونور الإيمان.. تلك الروح التي تبث في النفوس الواهنة القوة والأمل والصمود وصناعة النصر القادم، بل إن شئت قل هي الشجرة المباركة التي غرسها الأنبياء والمرسلون من لدن آدم عليه السلام حتى سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ومن سار على دربهم، وقد رويت بدماء زكية وعرق طاهر وجهد جهيد؛ كي تصل ثمار تلك الشجرة للأجيال التالية جيلاً بعد جيل، فلا تظنوا أنكم باعتقالكم – الذي نحتسبه لله – مسلوبو العطاء.. هيهات!! إن عطاءكم وأنتم في سجنكم هو رصيد مستمر من عطاء التضحية والفداء لدعوة الحق، يستلهم منها المربون والمصلحون وعموم المجتمع الدرس البليغ ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾(الأحزاب:22)،﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾( آل عمران:139).
أيها الأحرار الكرام..
نعم أيها الأحرار.. إن ما يميز جيلكم الصابر المحتسب المعطاء هو الأخلاق العالية؛ فرغم المحن يتعالى صاحب الرسالة على الشدائد، فلا توقفه عن السير بها مرفوع الرأس، وما هي إلا مشاعر عبر عنها الإمام حسن البنا بقوله: وبهذه المشاعر الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إياها.. أحياها الراعي الأول محمد صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله، وحدد لهم أهدافهم في الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم، بادية في أخلاقهم وأعمالهم، معتدّين بتكريم الله إياهم واثقين بنصره وتأييده، فدانت لهم الأرض، وفرضوا على الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، وبدلوا فيها سيئات المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدة ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ (رسالة دعوتنا في طور جديد).
فأصحاب العزائم يتعالون على المحن، ويستمرون في تبليغ الرسالة وهداية البشرية الحائرة، ويتحملون في سبيل ذلك الألم الشديد؛ لأنهم يريدون وجه الله تعالى وحده، ولا تعطل مسيرتهم قيل وقال، وكثرة المعوقات، والأذى ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ فكم هي الإيذاءات التي تعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ورغم ذلك ما أثناهم وما أقعدهم عن حمل الخير للناس رغم المشاق؛ فهي الشجرة الطيبة، يرمونها الناس بالحجر، فترميهم بأحسن الثمر، فهنيئًا لك أن تكون من هذا الصنف المبارك، حامل مشعل النور والهداية للعالمين، تأسيًا بسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
أيها الأحرار الكرام..
المؤمن يرد على السيئة بالحسنة، هذا حبيبنا صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه هذه الأخلاق الراقية والتسامح والعفو والصفح عن الآخرين؛ إذ قال له بعض الصحابة بعد ما أصابه يوم أحد: ادع عليهم يا رسول الله. فقال: “إن الله لم يبعثني طعانا ولا لعانا، ولكن بعثني داعيا ورحمة.. اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون” (رواه البيهقي) وكما قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: “إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا” (رواه مسلم). وتكرر هذا وهو عائد صلى الله عليه وسلم من رحلة الطائف، بعد أن آذوه، لكن حزنه كان من صدّ الناس عن دعوته، وجاءه ملك الجبال يطلب منه أن يطبق عليهم الأخشبين، فقال الرحمة المهداة: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا” (رواه البخاري ومسلم)، فالكريم لا يرد على السيئة بالسيئة؛ لأن هذا ليس من أخلاقه، وهذا أبو بكر رضي الله عنه فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس يتعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقام، فلحقه أبو بكر وقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت. قال: “كان معك ملك يرد عليه فلما رددت عليه وقع الشيطان”، ثم قال: “يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاد الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاد الله بها قلة” (رواه أحمد).
وليس معنى هذا أن يعطي المؤمن من نفسه الذلة والهوان وإنما يحرص على أن يبقى مرفوع الرأس شامخًا في عزة وإباء.. ولله در القائل:
ذل من يغبط الذليل بعيشٍ … رب عيشٍ أخف منه الحمامُ
من يهن يسهل الهوان عليه … ما لجرح بميتٍ إيلام
لهذا حرص الإمام البنا رحمه الله على ألا ينشغل الإخوان بغير الدعوة، وكان أول الملتزمين بهذا، فلم ينشغل بالرد على سيد قطب رحمه الله، فكان يوما ما أحد قيادات الإخوان حتى قدم روحه في سبيل الله، وأصبح أبرز شهداء الدعوة، وكذلك لم ينشغل الإخوان بإحسان عبد القدوس وغيره من صانعي الفكر في ذلك الزمان، فكان ابنه محمد عبدالقدوس أحد أعضاء الجماعة بعد ذلك، وهكذا أخلاق الإخوان نبع من فيض أخلاق الإسلام الحنيف؛ الذي انتشر في دول كاملة بحسن أخلاق تجاره.
أيها الأحرار الكرام..
لا تجزع من أذى الناس؛ فالمؤمن يتعالى على المحن بسموّ نفسه، وأصالة تربيته، وسلامة منهجه، وحسن اقتدائه؛ فمن كان من أوصافه هذه كان أذى الناس بالنسبة له كوسخ على ملابسه يزول بالماء، وصاحب الدعوة يخالط الناس ويتحمل منهم الأذى حسبة لله تعالى ونيلاً للخيرية؛ فهذا حبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول: “المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم” (رواه البخاري وأحمد، والترمذي، وابن ماجه)، ولكل دعوة سامية يسعى أصحابها لنشرها ضريبة من الأذى والشدائد والمعاناة، بعدها يأتي الفرج والنصر، يقينا وثقة في موعود الله تعالى ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).
أخى الحبيب في شهر شعبان فرصة لتحقيق رهبان الليل (توبة واستغفار – قيام – دعاء – صيام – أعمال بر).