التربية في اللغة
يعود أصل كلمة التربية في اللغة إلى الفعل (ربا) أي زاد ونما، وهو ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)﴾ (الحج).
وهذا يعني أن كلمة التربية لا تخرج في معناها اللغوي عن دائرة النمو والزيادة والتنشئة، وفي ذلك يقول الشاعر العربي القديم:
فمن يك سائلاً عني فإني *** بمكة منزلي وبها رُبِيت.
ولأن المعاجم اللغوية تُرجع الكلمة إلى حروفها الأصلية لإلقاء الضوء على مفهومها، فإن كلمة “تربية” التي تتكون من خمسة حروف تعود في أصلها إلى حرفين أصليين هما الراء والباء (رب) ولهذين الحرفين عند اجتماعهما العديد من المعاني التي أشار إليها (محمد خير عرقسوسي) بقوله: “وهكذا نجد أن الراء والباء يجتمعان على معنى السمو والإصلاح وتقوية الجوهر مع فروق طفيفة في تدرج هذا المعنى؛ حيث يستعمل للأمور المادية (ربا يربو) تعبيرًا عن زيادة مادية في جسم الأشياء، بينما يستعمل للإنسان والحيوان (رَبِيَ يَرْبَى) مثل خَفِيَ يَخْفَى، بمعنى ترعرع في بيئة معينة، ويستعمل للأمور المعنوية (رَبَا يَرْبَا) لتكريم النفس عن الدنايا، ويستعمل للرقي بالجوهر: ربَّ يَرُبُّ كمَدَّ يَمُدُّ، حتى نصل إلى (الرَّبِّ) وهو خالق كل شيء وراعيه ومُصلحه، فهو التربية الكاملة”.
معنى التربية اصطلاحًا:
يقول الإمام البيضاوي في تفسيره: التربية هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا. وفي مفردات الراغب الأصفهاني: هي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام.
ومن معانيها أيضًا: ترجمة العلم النظري إلى سلوك عملي، فالنظريات العلمية تظل حبيسة الورق ما لم تجد من يترجمها إلى الواقع العملي، وهي من أهم مهمات الرسل، ففي دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)﴾ (البقرة).
ويقول تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)﴾(البقرة).
وهناك آيات أخرى تتحدث عن مهام الرسل، فتقدم التربية على التعليم لتبين أهميتها فيقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(2)﴾ (الجمعة).
أهمية التربية في تغير السلوك:
إن أمر التربية أمر عظيم يحتاج إلى جهد كبير متواصل؛ لأن تغيير السلوك أمر صعب جدًّا، ويحتاج إلى أساليب متنوعة ومتغيره؛ ولما لا وقد شب الإنسان على ما كان عوده أبوه، كما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه
وقال آخر:
والنفس كالطفل إن تتركه شب *** على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فهذه النفس التي شبت عشرات السنين على سلوكيات معينة وطريقة في الحياة منحرفة عن النهج القويم، عندما تريد أن تغير هذه النفس إلى أسلوب آخر في الحياة، وأن تخلصها من هذه الشوائب التي علقت بها؛ يحتاج الأمر إلى جهد كبير صعب لا يغيب عن عاقل أبدًا؛ لأن التغيير هنا لا يكون مجرد إقناع عقلي فقط، ولكن لابد بعد هذا الإقناع من ممارسة طويلة لهذه الأخلاق كي تدخل منطقة اللاشعور، فتنطلق الأفعال بعد ذلك بصورة تلقائية، وبدون تفكير مسبق، وهذا لن يحدث في يوم وليلة، ولكن يستغرق وقتًا طويلاً ويحتاج جهدًا وصبرًا، وهذا الجهد يجب أن يتنوع مرة بالكلمة وتارة بالعمل وأخرى بالترهيب والثانية بالترغيب، والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه صلى الله عليه وسلم استخدم أساليب مختلفة لتربية أصحابه ولم يسلك معهم طريقة واحدة.
يقول جودة سعيد: الأمر لا يقتصر على وجود الفكرة فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تحويل الفكرة إلى إيمان يتدخل في سلوك الإنسان، فوجود الفكرة بشكل أوليّ لا يستلزم إيمان الناس بها إيمانًا يظهر على سلوكهم، ويدخل في شعورهم، والناس كثيرًا ما يتحدثون عن العدل والمساواة ولكنهم عند التطبيق يظهرون بالقيم العشائرية الأكثر عمقًا في داخلهم.
ويقول محمد قطب: فالتربية عملية مستمرة لا يكفي فيها توجيه عابر، مهما كان مخلصًا، ومهما كان صوابًا في ذاته، إنما يحتاج الأمر إلى المتابعة والتوجيه المستمر، إن المتلقي نفس بشرية، وليست آلة تضغط على أزرارها ثم تتركها وتنصرف إلى غيرها، فتظل على ما تركتها عليه، النفس البشرية دائمة التقلب، متعددة المطالب، متعددة الاتجاهات، وكل تقلب وكل مطلب وكل اتجاه في حاجة إلى توجيه، فالعجينة البشرية عجينة عصية تحتاج إلى متابعة دائمة، وليس يكفي أن تضعها في قالبها المضبوط مرة إلى الأبد وتستقر هناك، بل هناك عشرات من الدوافع الموَّارة في تلك النفس، دائمة البروز هنا والبروز هناك، ودائمة التخطي لحدود القالب المضبوط هنا وهناك، ولابد فى كل مرة من توجيه لإعادة ضبطها داخل القالب، حتى تنطبع نفس المتلقي بالتوجيه، فيقوم هو بذاته بعملية المتابعة والتوجيه والضبط، ومن هنا مشقة التربية وخطورتها وضرورتها في ذات الوقت، فإما الجهد الدائب، وإما الضياع.
يقول الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى: “إن الخطب والأقوال والمكاتبات، والدروس والمحاضرات، وتشخيص الداء ووصف الدواء؛ كل ذلك وحده لا يجدي نفعًا، ولا يحقق غاية، ولا يصل بالداعيين إلى هدف من الأهداف، ولكن للدعوات وسائل لا بد من الأخذ بها والعمل لها، والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل، ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة:
1) الإيمان العميق.
2) التكوين الدقيق.
3) العمل المتواصل“.
لقد بدأ الإمام البنا رحمه الله بالإيمان العميق، واعتبره أول مراحل التربية وأهمها، فالتربية الإيمانية هي الأساس؛ لأنه إذا ارتبط القلب بالله سهل كل شيء بعد ذلك من التكوين الدقيق والعمل المتواصل؛ ولأن القلوب إذا صلحت تبعتها الجوارح بالصلاح؛ ولأن القلب بالنسبة للجوارح كالملك بالنسبة للرعية تسمع وتطيع له، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح وإذا فسد القلب فسدت الجوارح.
أما المحور الثاني من محاور التربية والتغيير فهو: التكوين الدقيق، ومنه يتم بناء الشخصية المسلمة، وهو ما يمكن أن نسميه (التربية السلوكية والأخلاقية).
والمحور الثالث من محاور التربية، والتي أشار إليها البنَّا بقوله: العمل المتواصل يمكننا أن نطلق عليه مصطلح (التربية الدعوية والحركية) والهدف منها تربية المسلم وتعويده على التحرك بالدعوة وسط الناس.
أما الألفاظ والمصطلحات التي كانت تستخدم في كتابات السلف للدلالة على معنى التربية، فمنها مايلي:
1) – مصطلح التزكية: ويأتي بمعنى التطهير.
2) – مصطلح التهذيب: ويُقصد به تهذيب النفس البشرية وتنقيتها.
3) – مصطلح التطهير: ويُقصد به تنزيه النفس عن الأدناس والدنايا.
4) – مصطلح الإصلاح: ويُقصد به التغير إلى الأفضل.
5) – مصطلح التأديب: ويُقصد به التحلي بالمحامد من الصفات والطباع والأخلاق، والابتعاد عن القبائح.
6) – مصطلح التنشئة: ويُقصد به تربية ورعاية الإنسان منذ الصغر ولذلك يقال: نشأ فلان وترعرع.
7) – مصطلح التعليم: وهو مصطلح شائع ورد ذكره في القرآن الكريم.
8) – مصطلح السياسة: ويقصد بها القيادة وحسن تدبير الأمور في مختلف شئون الحياة.
9) – مصطلح النصح والإرشاد: ويعني بذل النصح للآخرين ودلالتهم على الخير وإرشادهم إليه.
نسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.