بقلم: محمد عبده
أُفضِّلُ دائمًا أن أخاطب بكلماتي القلب والعاطفة، وذلك أنه في اعتقادي أن للقلب التأثير الأقوى في الإقناع العقلي، كما أن العقل ربما يقتنع ولكنه يعجز عن التطبيق؛ لأنه غير محبٍّ لهذا الشيء، ولم يطمئن إليه نفسه.
غير أني في مقالي هذا سأحاول أن أستدعي عقلك كما أستدعي قلبك، وأن تكون معي بكلِّ حواسك، تقرأ ما أكتب وكأنك تسمعني، تناقشني وتبدي آراءك وكأنك تجلس معي، تجيب عن أسئلتي كلما طرحتها عليك، ولا مانع أن تعترض إذا ما وجدت ما لا يروق لك، وتسجل ذلك إن أردت.
إن إنتاج رغيف واحد من الخبز يحتاج إلى فريق عمل متكامل يبذُلُ من الوقت والجهد حتى يخرج إلينا في الصورة التي نراه عليها، فهو يحتاج ابتداءً إلى مَن يزرع قمحه ويرعاه، ويحتاج إلى من يحصده ويدرسه، ويحتاج إلى من يطحنه ويعجنه، ثم يحتاج إلى فرَّان يخبزه، وبائع يسوقه.
كل هؤلاء إن لم يقوموا بدورهم أو أخلوا بضروريات صناعته، أو كانوا هم شركاء متشاكسون، فإننا ربما لا نحصل على هذا الرغيف، وربما خرج إلينا بصورة لا نستسيغها ولا نقبلها.
هذا لإنتاج رغيف خبز واحد، فكيف بأعظم الأعمال وأجلها، وأحسن المهن وأحبها إلى الله، وهي العمل في مجال الدعوة إلى الله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾ (فصلت).
إن عملاً مثل هذا يحتاج رجالاً مؤمنين، ينظمون أنفسهم ويستفيدون من طاقاتهم، ويستغلون قدراتهم، ويوظفون إمكانياتهم وفق آلية معينة يتفقون عليها، ويضعون ضوابطها، ويرسمون طريقها ومنهاجها، ويرضون بكلِّ هذا ويلتزمون به، ويحملون أنفسهم على العمل والتضحية في سبيل تحقيق غايتهم، والوصول إلى أهدافهم، ويتجاوزون أي خلافات فرعية في الرؤى الفكرية، أو الوسائل الدعوية، أقول هذا رغم علمي بأن هذا معلوم من فقه الدعوة بالضرورة، فمجد الإسلام الغائب، وثروات بلاده المنهوبة، وخلافته المفقودة، يُستحال أن يدَّعي فردٌ أيًّا كان وصفه، وأيًّا كانت قدراته وإمكانياته أنه قادر بمفرده على تحقيق هذا الحلم، حلم استعادة الأمجاد.
والحقيقة الثابتة لدى الجميع أن المصاعب التي يواجهها المسلمون لا يناسبها التفرق والتشرذم وكثرة التجمعات، كما أنها لا تحل بجهد شخص بمفرده ولا بتفكيره المجرد، بل إن الفرد نفسه أثناء سيره في طريق الدعوة يحتاج إلى غيره فيما يقابله من متاعب ومصاعب، فهو بحاجة إلى من يناصره، وبحاجة إلى من يؤازره، وبحاجة لمن يرسم له الطريق، ويوضح له الدرب.
والفرد مهما بذل من جهد فلن يرقى عمله مهما ارتفع إلى مستوى العمل الجماعي، ولن يصل بتخطيطه مهما كانت قدراته العقلية إلى مستوى التخطيط الجماعي؛ لأن الآراء والأفكار تُقلب في مطبخ العمل الجماعي على جميع الوجوه، وتستفيد من جميع العقول، وتستغل كل الخبرات، بينما العمل الفردي والجهد الفردي قليل الثمرة عديم الجدوى ضئيل النفع قريبة نهايته سريع اضمحلاله.
إذن فضرورة العمل الجماعي لا يختلف عليها اثنان، ودوره في إنجاز المهام لا ينكره أحد، لذا فإن هذا العمل الجماعي لا بدَّ له من ضوابط تحكمه ولوائح تنظمه، وأخلاقيات يلتزم بها كل من رضي أن يعمل داخل فريق أو ضمن مجموعة، خاصة إذا كان هذا الفريق وتلك المجموعة تعمل من أجل غاية عظيمة وهدف سامٍ هو مرضاة الله رب العالمين:
(1)
التفاهم والانسجام
العمل الجماعي يعني اشتراك أكثر من فرد في إنجاز مهمة أو عدة مهام، ومما لا شك فيه أن هؤلاء الأفراد إن لم يكونوا متفاهمين فيما بينهم، منسجمين في أفكارهم، متناغمين في آرائهم، يحترم كل منهم رأي الآخر، فإن هذا العمل سيصاب بالشلل وتتوقف ماكيناته عن الإنتاج.
والاختلاف والتنافر هما الفرق بين الانسجام والتفاهم وشتان بين الاثنين، فالاختلاف والتنافر يورثان الكره والبغض والحقد والحسد، ويُستحال أن يثمر معهما عمل أو يتقدم بهما نظام.
وحسن الخلق هو الكفيل والضامن لتحقيق الانسجام والتفاهم، فنفورنا من شخص ما وكثرة اختلافنا معه يجعلنا لا نقبل منه كلامًا ولا نسمع له قولاً ولا نرغب في صحبته ونرفض الاحتكاك به؛ خوفًا من سوء أدبه وتجنبًا لإساءته.
والأخ المتفاهم هو ذلك الأخ الذي يألفه إخوانه ويحبونه ويتقربون منه، ويكسب ثقتهم ويحظى بقربهم، يستشيرونه في أمورهم العامة والخاصة، الكل يتمنى أن يكون من رفقائه في أي نشاط، وشركائه في أي عمل، يقبلون منه السقطة، ويقيلون منه العثرة، ويتحملون منه الشدة، وكيف لا وهذه النوعية من الناس هي من اختارها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتكون من أحب الفئات إليه، يقول صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بأحبكم إلى وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة”، وأعادها مرتين أو ثلاث – قالوا: نعم يا رسول الله ،قال: “أحسنكم خلقًا..” (1). وزادت في رواية “الموطَّؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون” (2).
وأما من كان سلوكه وخلقه غير ذلك فلن يستطع أن يؤدِّي رسالة ولن ينهض بعبء، وسيصير مرفوضًا من إخوانه “.. ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف” (3).
وعلى الأخ أن ينأى بنفسه أن يكون ممن يتقيه من حوله لشره وسوء خلقه، ويستميلونه بلين الكلام وحسن المعاملة مخافة فحشه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم “بئس أخو العشيرة”، فلما دخل انبسط إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه فلما خرج قلت يا رسول الله لما استأذن قلت بئس أخو العشيرة فلما دخل انبسطت إليه؟ فقال “يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش المتفحش” (4).
(2) الابتسامة
وإن من وسائل تحقيق التفاهم والانسجام طلاقة الوجه، فالأخ طليق الوجه والذي تعلو وجهه الابتسامة المشرقة، ويُعرف بالبشر في طلعته لهو أخ تستريح النفس برؤيته ويسعد القلب بلقياه، وتطيب الروح بالتعامل معه، مما سيكون له بالغ الأثر في إحداث التناغم بينه وبين إخوانه، ولذلك كان التوجيه النبوي: “لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق” (5).
فالابتسامة التي قد يهملها البعض لتصنع العجب العجاب في نفوس الآخرين، كما ذكر الصحابي الجليل جرير بن عبد الله أنه قال: “ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم” (6)، ويقول صلى الله عليه وسلم: “لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط” (7).
(3) خفة الظل
والأخ خفيف الظل كثير المرح هو الأخ القادر على تحقيق أكبر قدر من التفاهم والانسجام بين فريق العمل عن غيره، والأخ الذي نقصده بخفة الظل وكثرة المرح أخ متوازن فهو لا يغلو ولا يشتط ولا يؤذي الآخرين بمزاحه.
كما هو لا يقسو ولا يتزمت ولا يتجافى في جده، ولقد تعجب الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم من مداعبته لهم فقالوا له: إنك تداعبنا!! فقال: إني لا أقول إلا حقًّا”(8).
ولهذا لم يجد الصحابة رضوان الله عليهم حرجًا في المزاح والمداعبة، أخرج البخاري عن بكر بن عبد الله قال “كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال” (9) يتبادحون: أي يترامون.
إن خفة الظل ومرح النفس وجمال الروح لصفات تكسب صاحبها دماثة في الخلق ومحبة في القلب يستطيع من خلالها غزو النفوس غزوًا وأسر القلوب أسرًا، ما يساعد على تحقيق التفاهم والانسجام.
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنعيمان بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه وكان يقال له النعيمان: لو نحرتها فأكلناها فإنا قد قرمنا إلى اللحم ويغرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنها، قال: فنحرها النعيمان، ثم خرج الأعرابي فرأى راحلته فصاح: واعقراه يا محمد فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “من فعل هذا؟” قالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه فوجده في دار ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب- رضي الله عنها- قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد والسَّعف، فأشار إليه رجل ورفع صوته يقول: ما رأيته يا رسول الله، وأشار بإصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تغيَّر وجهه بالسعف الذي سقط عليه فقال له: “ما حملك على ما صنعت؟” قال: الذين دلوك عليَّ يا رسول الله هم الذين أمروني، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عن وجهه ويضحك، قال: ثم غرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم (10).
ولقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصين كل الحرص أن تكون شخصياتهم مقبولة ومرضية عند الناس، ويتضح هذا من طلب الصحابي الكريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدله على عمل إذا عمله أحبه الله وأحبه الناس فقال له: “ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما أيدي الناس يحبوك” (11).
إن التفاهم والانسجام بين أفراد الصف سبب مباشر في اجتماع الكلمة ووحدة الصف وترابط القلوب، بينما الاختلاف والتناحر سببًا في فرقة الكلمة والصف واختلاف القلوب والنفوس، ولقد كان الإسلام سببًا واضحًا في تجميع المسلمين تحت كلمة واحدة وقلب واحد بعد أن كانوا في الجاهلية أكثر الناس اقتتالاً ومخاصمة فجمع الإسلام شتاتهم ووحد كلمتهم، وتحت راية الهدى ألف بينهم.
يقول الشهيد سيد قطب: “لقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله ولا تصنعها إلا هذه العقيدة فاستحالت هذه القلوب النافرة وهذه الطباع الشموس إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ” (12).
إن السعي إلى الألفة والمحبة بين فريق العمل كوسيلة أساسية لإحداث التفاهم والانسجام فيما بينهم لا يعني إذهاب الهيبة والاحترام بين الفرد والمسئول، بين القائد والجندي، ولكن إعلاءً للغة القرب والود وليس التناحر والاختلاف، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم هو هذا النموذج الذي ننشده فقال عنه من وصفه: “أجود الناس كفًّا وأشرحهم صدرًا وأصدق الناس لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه” (13).
إن صفاء الود وتطهير القلب من الحقد والغل والحسد مع رفقاء الدرب يجعل الطريق إلى التفاهم والانسجام مفتوحًا على مصراعيه، ويبعد التناحر والاختلاف بينهم جاء في الحديث القدسي: “وحقت محبتي للذين يتصافون من أجلي” (14).
ومما يساعد على إحداث التفاهم والانسجام حُسن العرض للمسائل المطروحة للمناقشة والتداول، فعرضها بطريقة تُثير الآخرين أو تستفز مشاعرهم من شأن ذلك أن يوتر الأجواء ويشحن النفوس ويُغير القلوب، وربما ارتفعت الأصوات وساء الأدب بين الصغير والكبير وكل هذا ليس من شيم الدعاة ولا من أخلاقهم، بل يجب أن تثار كل هذه القضايا في جوٍّ من المحبة وروح التفاهم والانسجام.
وإن مما يساعد على التفاهم والانسجام، الاحترام الذي يكنُّه بل ويظهره الأخ في تعامله مع أخيه، ليس فقط في لقاءات المتابعات والإداريات وإنما في كل الأحوال، وإن الهيبة البعيدة عن التقديس لَمِن الأهمية بمكان أن تكون بين العاملين في مجال الدعوة إلى الله، فكل فرد داخل الصف له مكانته التي يجب أن تُحترم، وقدره الذي يجب أن يُجل، وبخاصة إذا كان كبيرًا في العمر أو مسئولاً في العمل، أو عالمًا في الشرع، وقد أقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ فقال: “إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين” (15)، وقال “ليس منَّا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه” (16).
ومما يوجب الاحترام والتقدير سبق الفضل لمن سبقونا على الطريق، وضحَّوا من أجل الدعوة، وهذا من أهم ما نُذكر به ونؤكد عليه، يُروى أن جرير بن عبد الله كان يخدم أنسًا مع أنه أكبر منه سنًّا؛ لأن جريرًا لم ينس إكرام الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “لا أجد أحدًا من الأنصار إلا أكرمته” (17).
إن هيبة الكبير في النفس ليست من قبيل التقديس أو التفضيل، وإنما هي من قبيل الاحترام والتقدير، فتصرُّف عبد الله بن عمر رضي الله عنه لمَّا عرف جوابًا لسؤال طرحه الرسول صلى الله عليه وسلم عن شجرة تشبه الإنسان، لم يُجب لمّا رأى في القوم كبار الصحابة، ورأى نفسه أصغرهم، يقول رضي الله عنه: “فأردت أن أقول هي النخلة، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم فسكت”(18)، فالكبير في قومه يجب أن يُعامَل معاملةً تليق بمكانته وهيبته “البركة مع أكابركم” (19)، ويقول صلى الله عليه وسلم: “إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه” (20).
ألا فليعلم الجميع أن الاحترام المتبادل بين الجميع سيصب في مصلحة وحدة الصف، وتوفير الجهود، وتأليف القلوب، وإزالة الدخن، وإغاظة العدو، وتحقيقًا للتفاهم والانسجام داخل فريق العمل الدعوي؛ ما يعني مزيدًا من التقدم والاستقرار.
إذا كان الحوار في اجتماعاتنا ولقاءاتنا مبنيًّا على الموضوعية والمنطق فسوف يكون ذلك أدعى إلى تحقيق التفاهم والانسجام بين فريق العمل الدعوي، وأعني بذلك التعاطي مع المقترحات والاجتهادات المقدمة لتطوير العمل، أو للنهوض بنشاط من الأنشطة الدعوية ينبغي أن يكون تعاطيًا إيجابيًّا، حتى إذا كان هذا المقترح لا يرقى للمستوى المطلوب، أو ثغراته واضحة لدرجة يظن معها البعض أنه لا فائدة من طرحه، وتضيع الوقت في مناقشته، فإن من الواجب أن يتم مناقشته في جوٍّ من الصدق والمحبة، وإظهار ما به من عيوب وما له من محاسن، لا السخرية منه أو إهماله، فلغة الإقناع هي الأقرب للتفاهم والتناغم.
جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه يقول له: يا رسول الله ائذن لي بالزنا!! فأقبل القوم عليه فزجروه فقال النبي لهم: “مه مه” فقال ادنه، فدنا منه قريبًا. قال فجلس، قال “أتحبه لأمك؟” قال لا والله.. جعلني الله فداك، قال: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم” قال “أفتحبه لابنتك؟” قال لا والله يا رسول الله.. جعلني الله فداك، قال “ولا الناس يحبونه لبناتهم” قال: “أتحبه لأختك؟” قال: لا والله.. جعلني الله فداك، قال “ولا الناس يحبونه لأخواتهم” قال: “أتحبه لعمتك؟” قال لا والله.. جعلني الله فداك، قال “ولا الناس يحبونه لعماتهم” قال: “أتحبه لخالتك؟” قال: لا والله.. جعلني الله فداك، قال: “ولا الناس يحبونه لخالاتهم” قال، فوضع يده عليه وقال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه” (21).
والسماحة من شأنها أيضًا أن تُحدث نوعًا من التفاهم والانسجام بين فريق العمل الدعوي؛ لأن الشخص المتشدد في مطالبه، والمتعصب لآرائه، والمتزمت لفكره، والذي يزعم أن الحقَّ معه على طول الخط، والصواب فيما يقول دائمًا، يشيع التوتر والاختلاف داخل مجموعة العمل.
بينما الأخ السهل السمح، والذي يتنازل عن حظِّ نفسه أو جزء من حقِّه أو لا يُلحف في المطالبة بحقوقه ليحل مشكلة هو طرف فيها، أو ليقرب بين وجهات النظر المختلفة، أو ليضيق من مساحة أي خلاف قائم، أو ليطوي صفحة طال الجدال حولها، أو ليتألف قلوب المحيطين به، أو ليستطيب نفوس إخوانه، فإن ذلك لمن أعظم الوسائل التي تُشيع التفاهم والانسجام داخل فريق العمل.
وإن ما يقع أحيانًا من البعض من نقاش حادٍّ حول موضوع ما في الأمور السياسية أو القضايا الفكرية، أو حول مشكلة ما من مشاكل العمل القائمين عليه لمن الأمور التي تحتاج لإعادة نظر لدى البعض، خاصة إذا وصل النقاش إلى درجة الجدل الذي يستحيل معه الوصول إلى نتيجة، وربما خرج المتناقشون من مثل هذا الحوار غائري الصدور، وأحيانًا يصل الأمر إلى التباغض والعداوة، لأن الجدال يبعد المسافات، ويُعقد المسائل “ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل” (22).
إن أهم ما يجب الحذر منه هو الانزلاق نحو هذا المنزلق الخطير الذي يتمسك فيه المتحاورون كلٌّ برأيه ولا يقبل بغيره، فيتحول فريق العمل الدعوي حينئذ من فريق عمل منتج إلى فريق يُهدر وقته في التنظير والتقعيد، ويغدو فريق جدل لا فريق عمل.
وإن مما حرَّم الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته “منعًا وهات” (23) ومما كره لهم “قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال” (24).
ومما لا شك فيه أن الاختلاف في وجهات النظر أمرٌ وارد في إدارة أي عمل، وأن الرؤى والمواقف تختلف من شخص لآخر، فيجب أثناء المداولات والمناقشات أن لا ترتفع الأصوات، ولا تختلف المقاصد، ولا يتحول النقاش إلى أمر شخصي يحاول فيه الجميع أن ينتصر لرأيه ووجهة نظره.
بل لا بد أن يكون مدار النقاش من أوله إلى منتهاه هو المصلحة العامة للعمل، وإذا ما تجاوز الآخر ورفع صوته أو انحدر في مناقشاته إلى منزلق لا يليق بأدب الدعاة إلى الله فإن واجب الطرف الآخر ألا يقع في نفس المنزلق، بل عليه أن يدفع ذلك بالتي هي أحسن، يقول ابن عباس رضي الله عنه “ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك” (25).
إن الدفع بالتي هي أحسن هي التي تلين قلب أخيك، وتحفظ الود والمحبة بينكما التي قد يكون النقاش أو الاختلاف سببًا في تغيرها، كما أن الدفع بالتي هي أحسن والمحافظة على الوقار والاتزان وعدم الانسياق وراء الاستفزازات هو الذي يجعل لك اليد العليا.
ومما يجب الإشارة إليه أن يحذر الجميع من الانزلاق إلى هاوية الانتقام والتشفي، خاصة إذا كان ذا سلطان أو مكانة قيادية، فيُعمل مبدأ القوة والعنف والاضطهاد، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو خادمه فيقول: إن لي خادمًا يسيء ويظلم أفأضربه؟ قال: “تعفو عنه كل يوم سبعين مرة” (26).
وإذا كان هذا هو الحال مع خادم مُستأجر له أن يطيع سيده ولا يُعصيه، أفلا يستحق أخونا في الصف أن نعفو عنه إن أخطأ.
وكما أن هذا المبدأ- مبدأ الانتقام والتشفي- يجب أن ينمحي من ذاكرة القادة والمسئولين، فإن واجب مَن هم أقل من ذلك في المسئولية أن لا يرد على ما رأى فيه تشددًا أو تعسفًا بالتشهير أو الخروج على الصف، بل يجب أن تُحل الخلافات في جوٍّ من الود والصفاء، يقول ابن عباس “أُمر المسلمون بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم” (27).
وكم سيكون أمرًا سيئًا إذا تبارى فريق العمل بتدبير الكيد والمكر ردًّا على إساءة أو خطأ، وكم سيكون أمرًا محزنًا إذا لم يهدأ أفراد فريق العمل حتى يكيل بعضهم الصاع صاعين لمن أخطأ في حقهم أو اختلف معهم.
ومما يساعد على تحقيق التفاهم والانسجام داخل فريق العمل الدعوي تبني منهج التيسير، ونبذ التشدد والجمود، فإن هذا من شأنه أن يقرب ولا يبعد ويؤلف ولا يُنفر، ولقد وصَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابيين الجليلين أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عندما أرسلهما إلى اليمن “بشِّرا ويسِّرا وعلما ولا تنفرا”(28)، وأراه قال “وتطاوعا”، وكأن التيسير والتبشير وعدم التنفير هو من سيجمع الناس من حولهما.
وعكس التيسير التعنت والتشدد، وهما مما يستحيل معه إحداث نوع من التوافق أو التقريب، إذ إن المتعنت أو المتشدد قلما يتنازل أو يتراجع عن موقف تبناه أو رأي أبداه، وهو أساس حدوث التوافق والتقريب، يقول صلى الله عليه وسلم: “إن الله لم يبعثني معنتًا أو متعنتًا ولكن بعثني معلمًا ميسرًا” (29).
وتصفه السيدة عائشة رضي الله عنها فتقول: “ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا” (30).
وتبني المنهج الميسَّر هو ما يتفق عليه الجميع، أو الغالبية من فريق العمل، إذ قَلَّمَا تجد شخصًا متشددًا أو متعصبًا لرأي أو لفكرة، ولهذا فإن تبني هذا المنهج الوسطي سبيل إلى تحقيق أكبر قدر من التفاهم والانسجام بين فريق العمل بخلاف التشدد وأخذ النفس بالعزيمة؛ حيث إن إباحة الرخص تجعل الإنسان ينفرط حبله، وتمل نفسه، وتفتر عزيمته، ولا يدوم على عمل “إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة وخير دينكم أيسره” (31).